مُنِيراً. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) .. ولكنهم هم لا يتذكرون ولا يشكرون ..
ثم يجئ الشوط الأخير يصور (عِبادُ الرَّحْمنِ) الذين يسجدون له ويعبدونه ، ويسجل مقوماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة. ويفتح باب التوبة لمن يرغب في أن يسلك طريقة عباد الرحمن. ويصور جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً).
وتختم السورة بتقرير هوان البشرية على الله لو لا هذه القلوب الطائعة المستجيبة العارفة بالله في هذا القطيع الشارد الضال من المكذبين والجاحدين ..
وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه منهم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فهو يتفق مع ظل السورة وجوها ، ويتفق مع موضوعها وأهدافها ، على طريقة التناسق الفني في القرآن.
* * *
والآن نبدأ الشوط الأول بالتفصيل :
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ؛ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً ؛ وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) ..
إنه البدء الموحي بموضوع السورة الرئيسي : تنزيل القرآن من عند الله ، وعموم الرسالة إلى البشر جميعا. ووحدانية الله المطلقة. وتنزيهه عن الولد والشريك ، وملكيته لهذا الكون كله ، وتدبيره بحكمة وتقدير .. وبعد ذلك كله يشرك المشركون ، ويفتري المفترون ، ويجادل المجادلون ، ويتطاول المتطاولون!
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ..
والتبارك تفاعل من البركة ، يوحي بالزيادة فيها والفيض والرفعة جميعا. ولم يذكر لفظ الجلالة واكتفى بالاسم الموصول (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) لإبراز صلته وإظهارها في هذا المقام ، لأن موضوع الجدل في السورة هو صدق الرسالة وتنزيل القرآن.
وسماه الفرقان. بما فيه من فارق بين الحق والباطل ، والهدي والضلال. بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج ، وبين عهد للبشرية وعهد. فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير ، وصورتها الممثلة في الواقع. منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله. ويمثل عهدا جديدا للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله. فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير. فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد. وينتهي به عهد الخوارق المادية ويبدأ به عهد المعجزات العقلية. وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة ، ويبدأ به عهد الرسالة العامة الشاملة : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً).
وفي موضع التكريم لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وفي مقام التعظيم يصفه بالعبودية : (عَلى عَبْدِهِ) .. كذلك وصفه في مقام الإسراء والمعراج في سورة الإسراء : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى). وكذلك وصفه في مقام دعائه ومناجاته في سورة الجن : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ ..) وكذلك يصفه هنا في مقام تنزيل الفرقان عليه كما وصفه في مثل هذا المقام في مطلع سورة الكهف :