وصار يوما ، فكيف وجدته؟. أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يوما كان له حكم الأمس ، لا بل تعجزين عنه اليوم ، فأنت غدا عنه اعجز وأعجز ، لان الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعبّد العبد (١) بقلعها ، فاذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها ، كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي ، فأخرها الى سنة أخرى ، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخا ، ويزيد القاطع ضعفا ووهنا ، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب ، بل من العناء رياضة الهرم ، ومن التعذيب تهذيب الذيب ، والقضيب الرطب يقبل الانحناء ، فاذا جف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك.
فاذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية ، وتركنين الى التسويف ، فما بالك تدعين الحكمة ، وأية حماقة تزيد على هذه الحماقة؟. ولعلك تقولين : ما يمنعني من الاستقامة الا حرصي على لذة الشهوات ، وقلة صبري على الآلام والمشقات ، فما أشد غباوتك ، وأقبح اعتذارك.
ان كنت صادقة في ذلك فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية من الكدورات الدائمة أبد الآباد (٢) ، ولا مطمع في ذلك الا في الجنة ، فان كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها ، فرب أكلة تمنع أكلات.
وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ، ليصح ويهنأ بشربه طول عمره ، وأخبره أنه ان شرب ذلك مرض مرضا مزمنا ، وامتنع عليه شربه طوال العمر ، فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة : أيصبر ثلاثة ايام ليتنعم طول العمر ، أم يقضي شهوته في
__________________
(١) تعبد العبد بقلعها : أي طلب الله من عبده أن يعبده ويتقرب اليه باقتلاعها.
(٢) أبد الآباد : دهر الدهور ، وهذا يفيد الاستمرار الدائم طول الدهور.