إذا أعطاه وأطعمه ، كقوله : ماره يميره ، وامتار افتعل منه ، والمائدة هي الطعمة (١) للآكلين [الطعام](٢) ، وسمي الطعام أيضا مائدة على الجواز ، لأنه يؤكل على المائدة ، وقال أهل الكوفة : سمّيت مائدة لأنها تميد بالآكلين ، أي : تميل ، وقال أهل البصرة : فاعلة بمعنى المفعول (٣) ، يعني : ميد (٤) بالآكلين إليها ؛ كقوله تعالى : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] ، أي : مرضية ، (قالَ) عيسى عليهالسلام مجيبا لهم : (وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فلا تشكّوا في قدرته ، وقيل : اتّقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم ، فنهاهم عن اقتراح الآيات بعد الإيمان.
(قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))
(قالُوا نُرِيدُ) ، أي : إنّما سألنا لأنّا نريد ، (أَنْ نَأْكُلَ مِنْها) ، أكل تبرّك لا أكل حاجة فنستيقن قدرته ، (وَتَطْمَئِنَ) ، وتسكن ، (قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) ، بأنّك رسول الله ، أي : نزداد إيمانا ويقينا ، وقيل : إن عيسى عليهالسلام أمرهم أن يصوموا ثلاثين يوما فإذا فطروا لا يسألون الله شيئا إلّا أعطاهم ، ففعلوا وسألوا المائدة ، وقالوا : (وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في قولك ، أنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى شيئا إلّا أعطانا ، (وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) ، لله بالوحدانية والقدرة ، ولك بالنبوّة والرسالة ، وقيل : ونكون من الشاهدين لك عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم.
(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ، عند ذلك ، (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) ، وقيل : إنه اغتسل ولبس المسح وصلّى ركعتين وطأطأ رأسه وغضّ بصره وبكى ، ثم قال : اللهمّ ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء ، (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) ، أي : عائدة من الله علينا حجّة وبرهانا ، والعيد : يوم السرور ، وسمّي به للعود من الفرح (٥) إلى الفرح ، وهو اسم لما اعتدته ويعود إليك وسمّي يوم الفطر والأضحى عيدا لأنهما يعودان في كل سنة ، قال السدي : معناه نتخذ اليوم الذي أنزلت فيه عيدا لأوّلنا وآخرنا ، أي : نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال سفيان : نصلّي فيه ، قوله : (لِأَوَّلِنا) ، أي : لأهل زماننا وآخرنا ، أي : لمن يجيء بعدنا ، وقال ابن عباس : يأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم ، (وَآيَةً مِنْكَ) ، دلالة وحجة ، (وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
(قالَ اللهُ) تعالى مجيبا لعيسى عليهالسلام ، (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ) ، يعني : المائدة وقرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم «منزّلها» بالتشديد لأنها نزلت مرات والتفعيل يدلّ على التكرير مرة بعد أخرى وقرأ الآخرون بالتخفيف لقوله أنزل علينا ، (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) ، أي : بعد نزول المائدة (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً) ، أي : جنس عذاب ، (لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) ، يعني : عالمي زمانه فجحدوا وكفروا بعد نزول المائدة فمسخوا قردة وخنازير.
قال عبد الله بن عمر [و] : إنّ أشد الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة
__________________
(١) كذا في المطبوع والمخطوط أ ، وفي ب «المعطية» وفي ط ، «المطعمة».
(٢) سقط من المطبوع وحده.
(٣) في المطبوع «المفعولة».
(٤) في ط ، «تميد».
(٥) في المطبوع «الترح».