صوفا وبكى ، وقال : اللهمّ أنزل علينا مائدة من السماء الآية ، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضّة (١) حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى ، وقال : اللهمّ اجعلني من الشاكرين اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة ، واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه ، فقال عيسى عليهالسلام : ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله تعالى ، فقال شمعون الصفار رأس الحواريين : أنت أولى بذلك منّا [يا نبيّ الله](٢) ، فقام عيسى عليهالسلام فتوضّأ وصلّى صلاة طويلة وبكى كثيرا ، ثم كشف المنديل عنها ، وقال : بسم الله خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها فلوسها ولا شوك عليها تسيل من الدسم وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل ، وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ، ولكنه شيء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة ، كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم (٣) من فضله ، فقالوا : يا روح الله كن أول من يأكل منها ، فقال عيسى عليهالسلام : معاذ الله أن آكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا أن يأكلوا منها ، فدعا لها عيسى أهل الفاقة والمرضى وأهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين ، فقال : كلوا من رزق الله ولكم المهنأ (٤) ولغيركم البلاء ، فأكلوا وصدر عنها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض وزمن ومبتلى كلهم شبعان ، وإذ السمكة كهيئتها (٥) حين نزلت ، ثم طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت بالحجاب ، فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى إلا عوفي ولا فقير إلّا استغنى وندم من لم يأكل منها فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى ، فإذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء ، ولا تزال منصوبة يؤكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت صعدا وهم ينظرون إليها في ظلها حتى توارت عنهم ، وكانت تنزل غبا تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود ، فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليهالسلام : اجعل مائدتي ورزقي للفقراء دون الأغنياء ، فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكّوا وشكّكوا الناس فيها ، وقالوا : أترون المائدة حقا تنزل من السماء؟ فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليهالسلام إني شرطت أنّ من كفر بعد نزولها عذّبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين ، فقال عيسى عليهالسلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)) [المائدة : ١١٨] ، فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون رجلا باتوا من ليلتهم على فراشهم مع نسائهم فأصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكنّاسات ، ويأكلون القذرة في الحشوش فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليهالسلام وبكوا ، فلما أبصرت الخنازير عيسى عليهالسلام بكت وجعلت تطيف بعيسى عليهالسلام وجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برءوسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام ، فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا (١).
__________________
(١) ذكره ابن كثير في «التفسير» (٢ / ١٥٢ ، ١٥٤) ونسبه لابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الخير ثم قال : هذا أثر غريب جدا قطّعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل ، والله. سبحانه وتعالى أعلم .... ا ه.
__________________
(١) في المطبوع «خافضة».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المطبوع وط «ويزيدكم».
(٤) كذا في المطبوع وط ، و «الدر المنثور» (٢ / ٦١٢) وفي المخطوطين «الهنأ».
(٥) في المطبوع «بحالها».