إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا ، ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء [بالوقيعة](١) وأنت تسمع ، ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت؟ قال : قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كبير (٢) ، وأيم الله لأتعرضنّ له فإن عاد لأكفينّكه ، قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه ، قال : فدخلت المسجد فرأيته فو الله إني لأمشي نحوه أتعرّضه ليعود لبعض ما قال فأقع (٣) به ، وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ ، قال : قلت في نفسي : ما له لعنه الله أكلّ هذا فرق مني أن أشاتمه ، قال : فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره [وقد](٤) ، جدع أنف بعيره وحوّل رحله وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللّطيمة اللّطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمّد في أصحابه ، ولا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث ، قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء به من الأمر ، فتجهّز الناس سراعا فلم يتخلّف من أشراف قريش أحد إلّا أن أبا لهب قد تخلّف وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة ، فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت ما [كان](٥) بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بن الحارث ، فقالوا : نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم.
فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني كنانة ، وقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا وخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أصحابه في ليال مضت من شهر رمضان حتى إذا بلغ واديا يقال له ذفران (٦) ، فأتاه الخبر عن مسير (٧) قريش ليمنعوا عيرهم فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى إذا كان بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بهم.
وبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم أيضا عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى عبد الله بن أريقط فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فنزل جبريل وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إمّا العير وإما قريشا ، وكانت العير أحبّ إليهم.
فاستشار النبيّ صلىاللهعليهوسلم أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك ، فو الله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ـ يعني مدينة الحبشة ـ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم خيرا ودعا له بخير ، ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أشيروا عليّ أيها الناس» ، وإنّما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتخوّف أن لا تكون الأنصار ترى عليهم نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوّه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوّ من بلادهم.
__________________
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) العبارة في المخطوط «قلت والله ما كان إليه مني من كبير والله لأتعرضنّ».
(٣) في المطبوع وحده «فأدفع».
(٤) زيادة عن المخطوط و «السيرة» (٢ / ١٨٩)
(٥) زيادة عن المخطوط و «السيرة».
(٦) تصحف في المطبوع «ذا قرد».
(٧) في المطبوع «مسيرة».