قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) ، أي : مجتمعين متزاحفين بعضكم إلى بعض ، والتزاحف : التداني في القتال : والزحف مصدر ولذلك لم يجمع ؛ كقولهم : قوم عدل ورضا. قال الليث : الزحف جماعة يزحفون إلى عدوّ لهم بمرّة ، فهم [الزحف و](١) الجمع الزحوف. (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) ، يقول : فلا تولوهم ظهوركم ، أي : لا تنهزموا فإن المنهزم يولي دبره.
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) ، ظهره ، (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) ، أي : منعطفا (٢) يري من نفسه الانهزام ، وقصده طلب الغرّة وهو يريد الكرة ، (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) ، أي : منضما صائرا إلى جماعة من المؤمنين يريد العود إلى القتال. ومعنى الآية النهي عن الانهزام من الكفار والتولّي عنهم ، إلّا على نية التحرّف للقتال والانضمام إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ويعود إلى القتال ، فمن ولّى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد ؛ كما قال تعالى : (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال أبو سعيد الخدري : هذا في أهل بدر خاصة ، ما كان يجوز لهم الانهزام لأن النبيّ صلىاللهعليهوسلم كان معهم ، ولم يكن لهم فئة يتحيّزون إليها دون النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ، فأمّا بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض ، فيكون الفار متحيّزا إلى فئة فلا يكون فراره كبيرة ، وهو قول الحسن وقتادة والضحاك. وقال يزيد بن أبي حبيب : أوجب الله النار لمن فرّ يوم بدر ، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٥] ، ثم كان يوم حنين بعده فقال : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] ، (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) [التوبة : ٢٧].
[٩٨٠] وقال عبد الله [بن عمر] : كنّا في جيش بعثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم فحاص الناس حيصة فانهزمنا ، فقلنا : يا رسول الله نحن الفرّارون ، قال : «بل أنتم الكرّارون ، إنا فئة المسلمين».
وقال محمد بن سيرين : لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال : لو انحاز إليّ كنت له فئة فإنّا فئة كل مسلم. وقال بعضهم : حكم الآية عام في حقّ كل من ولّى منهزما.
[٩٨١] جاء في الحديث : «من الكبائر الفرار من الزحف».
وقال عطاء بن أبي رباح : هذه الآية منسوخة بقوله عزوجل : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) [الأنفال : ٦٦] ، فليس لقوم أن يفرّوا من مثليهم (٣) فنسخت تلك إلّا في هذه العدة ، وعلى هذا أكثر أهل العلم أن المسلمين إذا كانوا على الشطر من عدوّهم لا يجوز لهم أن يفرّوا ويولّوا ظهورهم إلّا متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة ، وإن كانوا أقلّ من ذلك جاز لهم أن يولّوا ظهورهم وينحازوا عنهم. قال ابن عباس : من
__________________
[٩٨٠] ـ ضعيف. أخرجه أبو داود ٢٦٤٧ والترمذي ١٧١٦ والبخاري في «الأدب المفرد» ٩٧٢ والشافعي (٢ / ٣٨٨) وأحمد (٢ / ٧٠ و ٨٦ و ١٠٠ و ١١١) والحميدي ٦٨٧ وابن الجارود ١٠٥٠ وأبو نعيم (٩ / ٥٧) والبيهقي (٩ / ٧٦) من حديث ابن عمر ، وإسناده ضعيف مداره على يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف كبر فتغير ، فصار يتلقن كما في «التقريب».
[٩٨١] ـ صحيح. يشير المصنف لحديث «اجتنبوا السبع الموبقات ...» منها : «..... والتولي من الزحف ...».
أخرجه البخاري ٢٧٦٦ و ٦٨٥٧ ومسلم ٨٩ وأبو داود ٢٨٧٤ والنسائي (٦ / ٢٥٧) وأبو عوانة (١ / ٥٤ و ٥٥) وابن حبان ٥٥٦١ والبيهقي (٨ / ٢٤٩) من حديث أبي هريرة. وتقدم.
__________________
(١) سقط من المطبوع.
(٢) في المطبوع «متعطفا».
(٣) في المخطوط «مثلهم».