فرفع المدائن كلّها حتى سمع أهل السماء صياح الدّيكة ، ونباح الكلاب. فلم يكفا لهم إناء ولم ينتبه نائم ، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها) ، أي على شذّاذها ومسافريها. وقيل : بعد ما قلبها أمطر عليها ، (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير : (سنك وكل) (١) فارسي معرب. وقال قتادة وعكرمة : السجّيل الطين ، دليله قوله عزوجل : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣)) [الذاريات : ٣٣]. قال مجاهد : أولها حجر وآخرها طين. وقال الحسن : كان أصل الحجارة طينا فشددت. وقال الضحاك : يعني الآجر. وقيل : السجيل اسم السماء الدنيا. وقيل : هو جبال في السماء ، قال الله تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣]. قوله تعالى : (مَنْضُودٍ) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : متتابع يتبع بعضه (٢) بعضا مفعول من النضد ، وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض.
(مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥))
(مُسَوَّمَةً) ، من نعت الحجارة وهي نصب على الحال ، ومعناها معلمة. قال ابن جريج : عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال قتادة وعكرمة : عليها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقال الحسن والسدي : كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم. وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمي به. (عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ) ، يعني : تلك الحجارة ، (مِنَ الظَّالِمِينَ) ، أي : من مشركي مكة ، (بِبَعِيدٍ) ، وقال قتادة وعكرمة : يعني ظالمي هذه الأمة والله ما أجار الله منها ظالما بعد. وفي بعض الآثار : ما من ظالم إلّا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة. روي : أن الحجر اتّبع شذاذهم ومسافريهم ، أين كانوا في البلاد ، ودخل رجل منهم الحرم فكان الحجر معلّقا في السماء أربعين يوما حتى خرج فأصابه فأهلكه.
قوله عزوجل : (وَإِلى مَدْيَنَ) ، أي : وأرسلنا إلى ولد مدين ، (أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) ، أي : لا تبخسوا ، وهم كانوا يطفّفون مع شركهم ، (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) ، قال ابن عباس : موسرين في نعمة. وقال مجاهد : في خصب وسعة ، يحذّرهم (٣) زوال النعمة ، وغلاء السعر وحلول النقمة ، إن لم يتوبوا. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) ، يحيط بكم فيهلككم.
(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) ، أتمّوهما ، (بِالْقِسْطِ) ، بالعدل. وقيل : بتقويم لسان الميزان ، (وَلا تَبْخَسُوا) ، لا تنقصوا ، (النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).
(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا
__________________
(١) في المطبوع «سنك كل» وفي المخطوط «سبك ولك» والمثبت عن الطبري ١٨٤٤٢ و ١٨٤٤٥ و ١٨٤٤٦ أي : سنك : حجر ، كل : طين.
(٢) في المطبوع «بعضها».
(٣) في المطبوع «فحذرهم».