وأما إذا أطلق عليه سبحانه فالمراد به نفس الغاية وهي الترك. فقوله تعالى : (لا يَسْتَحْيِي) أي لا يترك ولا يدع ـ وكذا الكلام في جميع الصّفات التي يلزم من إطلاقها عليه تبارك وتعالى النقص. فيكون استعماله في المعنى الحقيقي لكن بداعي الترك ، ولا محذور من جعل الاختلاف في الداعي ، لا في ذات المعنى المستعمل فيه اللفظ.
ويفترق الحياء عن الخجل بأن الثاني من عوارض الجسم الإنساني بخلاف الأول فإنه من صفات الروح ، ولذا عد الحياء من جنود العقل في جملة من الأخبار ، وهناك فروق أخرى مذكورة في علم الأخلاق.
والضرب : يستعمل في معان كثيرة. والمراد به هنا التوصيف والتبيين فضرب الأمثال : توصيفها وبيانها.
و «ما» للإبهام والتنكير ، وما فوق البعوضة هو ما دونها في الصغر والحقارة. ويقال : إن البعوضة أصغر الحيوانات وحياتها في جوعها فإذا شبعت ماتت ، ولكن قد أثبت العلم الحديث أصغر منها.
والمعنى : إنّ الله تعالى لا يترك ولا يرى من النقص ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها ، وإنّما لا يستحي عن ذلك ، للأدلة العقلية الدالة على أنّ كلام الحكيم موافق للحكمة ، سواء أكان كلامه في الشيء الجليل العظيم أم الحقير اليسير أم في ما هو خارج عن عالم الممكنات وحيث إنّ القرآن نزل ليستفيد منه عامة النّاس فلا بد وأن يقترن بالأمثال جريا على طريقتهم لتأنس بها النفس ، وتتم بها الحجة عليهم. وقد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [سورة البقرة ، الآية ١٧].
قوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). هذا من باب ذكر العلة والمعلول مشعرا بالمدح والثناء ، لأن علة قولهم «إنه الحق من ربهم» إنما هو إيمانهم الذي معهم واعتقادهم بكلامه تعالى ، وأنه الحق من ربهم ولم يضرب الأمثال إلّا لحكم ومصالح فلا ينظرون إلى المثل والممثل به في الصغر والكبر والضعف والقوة بل ينظرون إلى الممثل (بالكسر) نظرة الحق والعظمة والجلال ، وأن كل مثال صغيرا أو كبيرا هو مثال الحق في الحكمة