فإن كل ما في الدنيا إن قوبل بإزالة الحق عن مقره وإظهار الباطل لكان ذلك قليلا في مقابل هذا الذنب العظيم قال تعالى : (لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٢] وأنى للنفوس المأنوسة بالماديات معرفة آيات الله جلت عظمته وقيمها الواقعية ، وهذه الآية المباركة شارحة لقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة ، الآية : ١٠١].
وكرر سبحانه وتعالى الوعيد ـ في هذه الآيات المباركة ـ ثلاث مرات إما لأجل عظمة الجرم وشناعته كما مر ، أو لأجل صدور ثلاث جرائم عظيمة هي أصل التغيير ، نشره بين الناس ، وأخذ الرشوة وإعمال الأغراض الشريرة في التغيير ، فقال سبحانه.
قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). أي : لهم عذاب شديد لأجل التحريف ولأجل الأغراض الفاسدة وفعل المعاصي.
قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً). ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة خصلة من خصالهم السيئة وضربا من غرورهم وادعائهم أنهم من أبناء الله وأحبائه فلا بد وأن تكون مدة العقاب قليلة. وقيل : إن أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام وقيل : أنها تمسهم أربعين يوما ، وهي المدة التي عبدوا فيها العجل. والمس واللمس بمعنى واحد ، إلّا أن الثاني أعم موردا من الأول ، فيصح أن يقال : التمست الكتاب فلم أجده ولا يصح أن يقال : مسست الكتاب فلم أجده ، قال تعالى : (أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) [سورة الجن ، الآية : ٨] ولا يصح استعمال مسسنا السماء ، لأن المنساق منه اللصوق والمقارنة الحقيقية بين الماس والممسوس ، وأكثر ما تستعمل مادة (م س س) في القرآن إنما هو في السوء والضر والمكروه ، وقد تستعمل في الخير أيضا ، قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)