والمراد بالمستثنى في قوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً) بعض اليهود الذين أقاموا على دينهم ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في حكايته عن الشيطان (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [سورة ص ، الآية : ٨٣] ونسب إلى نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله): «العالمون هالكون إلّا العاملين ، والعاملون هالكون إلّا المخلصين ، والمخلصون على خطر».
ثم إنّ التوجه إلى شيء يلازم الإعراض عما يضاده وينافيه ، فهما من الصّفات ذات الإضافة بينهما التلازم شدة وضعفا ، أو كمالا ونقصا فمن توجه إلى شيء من حيث هو مع قطع النظر عن أنه صنع الله تعالى ومظاهر آياته ومورد قضائه ورضائه ، فقد أعرض عن الله تعالى بقدر ما توجه اليه ، وأما إذا كان توجهه اليه من حيث انه مورد رضائه وطلبه لا يعد ذلك إعراضا عنه تعالى ، بل توجها إليه تعالى ، وهما يتحققان بالقلب ، إذ لا يمكن أن يتحقق التوجه إليه تعالى بالجسم لما ثبت في الفلسفة من امتناع الجهة بالنسبة إليه عزوجل ، قال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ١١٥] ، وقال جلّ شأنه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) [سورة الحديد ، الآية : ٤] ، وقال تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [سورة ق ، الآية : ١٦]. والإعراض القلبي عنه عزوجل يكون إما بعدم الإعتقاد به ، أو عدم سماع أحكامه ، أو عدم العمل بها بعد الاستماع ، أو الاستهزاء بآياته ، أو التولي عن أنبيائه ورسله والقائمين مقامهم في التشريع. وفي الأخير يتحقق الإعراض القلبي والجسماني معا ، ويأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء الله تعالى.
وقد نسب إلى جمع من المفسرين أن هذه الآية المباركة منسوخة واختلفوا في تعيين الناسخ ، فقد ذهب جمع إلى أن قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) منسوخ بآية السيف ، وهي قوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [سورة التوبة ، الآية : ٢٩] وهو منسوب إلى ابن عباس وقيل غير ذلك.
والحق أن الآية المباركة في مقام بيان أصل القانون وتشريع الحكم ،