وحنانا عليهم بأن لا تغلبهم دهشة اليوم ، فإن الرحمن الرّحيم معهم في أي عالم وردوا عليه وحاضر فيهم في ما إذا أحاطت بهم الدهشة.
وهذا من لطيف المعاتبة بين المالك الحكيم الغني والمملوك المحتاج فيدفع بيد ويجذب بالأخرى وقد جمع الله تعالى بين الترغيب والترهيب.
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦))
قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : لفظ الخطاب [إياك] استعمل هنا في مقام الحصر ، وقد أطلق عليه تعالى في القرآن بضمير الغيبة وضمير المتكلم مع إفادتهما الحصر أيضا ، قال تعالى : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [سورة يوسف ، الآية : ٤٠] ، وقال تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [سورة العنكبوت ، الآية : ٥٦].
ويستفاد الحصر في المقام من أمرين :
أحدهما : سياق الآية المباركة لأن من كان (رَبِّ الْعالَمِينَ) و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) و (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لا وجه لعبادة غيره فإنّ غيره مطلقا مملوك له تعالى ومحتاج إليه ولا وجه أن يدع من له تلك الصّفات في عبادته ويعبد غيره ، ومنه يظهر سر قولهم (عليهمالسلام): «العقل ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» وكثرة إطلاق الجهل على المشركين في الكتاب والسنة.
الثاني : استفادة الحصر من انفصال الضمير وتقديمه وينحل الحصر الى النفي والإثبات كأنه قال : لا نعبد غيرك ونعبدك ، كما في لا إله إلّا الله. وسائر موارد الحصر.
وفي الآية المباركة التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه بعد إقرار العبد بالالوهية والاعتراف بالربوبية وانه مالك يوم الجزاء صار لائقا بالمخاطبة الحضورية معه تعالى فارتقى العبد من الغيبة الى الحضور لارتقاء مقام قلبه عن الغفلة إلى التوجه والحضور.
وللتوجه من الغيبة الى الحضور مراتب بحسب مراتب المعرفة والطاعة في العبد ، كما يأتي إن شاء الله تعالى.