حقيقة النسخ والحكمة فيه :
لا ريب أن القوانين مطلقا ـ سواء كانت إلهية أو وضعية ـ تابعة للمصالح والمفاسد أي : أنها وضعت لتحقيق مصالح الإنسان ودرء المفاسد عنه ، فقد تقتضي المصلحة جعل القانون ثم تقتضي مصلحة أخرى رفعه أو تغييره ، وهذا مما تعارفت عليه القوانين الوضعية ، فإذا وضع الحاكم حكما لتنظيم العلاقات الفردية أو الاجتماعية ثم يرى عدم الفائدة في تطبيقه ، أو أنه لا يحقق المصالح المتوخاة من جعله يلغي ذلك القانون أو يصلحه بقانون آخر. ولم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف عليه بين الناس ، بل لنا أن نقول أن النسخ كسائر ما يعرض على القانون من العموم والخصوص ، والإطلاق والتقييد. والمجمل والمبين من لوازم جعل القانون بحيث لا يمكن تصويره إلّا ومعه أحد تلك اللوازم.
والنسخ بهذا المعنى معلوم عند كل أحد لا ينبغي الإشكال فيه وهو بالنسبة إلى القوانين الوضعية صحيح ، فإن الواضع الجاهل بحقيقة الحال لا يعرف متى ينتهي وقت العمل بالقانون الذي وضعه ومتى يتغير ، ولكن ذلك لا يصلح في النسخ بالنسبة إلى القوانين الإلهية فإنه يستلزم الجهل بالنسبة إلى الشارع المقدس ، وهو مستحيل ، فلا بد وأن يستند النسخ إليه سبحانه وتعالى بوجه صحيح ، وعمدة الوجوه المحتملة هي :
الأول : إبداء الحكم بصورة الدوام لمحض المصلحة في الإنشاء والتشريع ، ثم تتبدل المصلحة الظاهرية إلى مصلحة واقعية في المتعلق والمجعول تقتضي نسخ ما أنشئ أولا ، نظير التكاليف الامتحانية.
الثاني : كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحد معين في الواقع ولكن إنشاء الحكم بصورة الدوام لمصلحة في ذلك ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة يقتضيها الوقت. وإنما ظهر من الحكم الثاني ان الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حده ، وتبدل الأحكام بتبدل المصالح والمفاسد مما يشهد بصحته الوجدان والبرهان.
الثالث : كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات في الإنشاء