وقد ثبت في الفلسفة الإلهية أنّ الإنسان من بدء وجوده إلى حين موته إنما يسعى ويستهدف في حياته تحصيل غاية وغرض مّا وهذا الغرض يختلف باختلاف أفراد الإنسان ، ويمكن جمع تلك الأغراض المختلفة غير المحدودة في عنوانين كليين : الأغراض الواقعية العقلية ، والخيالية الوهمية ، وليس كل فرد يصل إلى غايته وغرضه لوجود موانع لا تعد وعوائق لا تحصى ، والحياة عبارة عن جلب الملائم ودفع العوائق وثبت هذا بالفطرة أيضا.
وفي الآية المباركة إشارة إلى أن الغاية العقلية التي لا بد من طلبها والغرض الذي يجتهد في تحصيله ذلك الكتاب ، لقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل ، الآية : ٨٩] فهلموا إليه ولا تذهبوا يمينا وشمالا فتضلوا السبيل.
ويمكن أن يكون المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي كان الأنبياء (عليهمالسلام) يطلبونه بالفطرة الاستكمالية عندهم لتكميل النفوس الإنسانية ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [سورة المائدة ، الآية : ٤٨].
قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ). الريب والريبة : هو الشك بل هو أدنى مراتبه وحذف المتعلق يفيد العموم أي : أن ذلك الكتاب لا شك فيه من أي جهة يمكن أن يتصور فيه الشك فهو مبرأ من كل عيب وشك ، لأن نفي كل طبيعة يقتضي نفي جميع أفرادها المتصورة في تحققها ، فنفي الريب بقول مطلق يقتضي نفيه في نظمه وبلاغته وفي علومه ومعارفه وتشريعاته وجميع الجهات المتصورة في كماله ومعارفه ولا ريب في كونه كذلك ، فليس لأحد أن يرتاب فيه بعد الاعتراف بأنه من الحكيم الخبير ، وهذا حكم عقلي ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم كسائر الأحكام العقلية ، كقوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة ابراهيم ، الآية : ١٠].
قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ). هدى مصدر والهداية الدلالة إلى الصراط المستقيم ولها مراتب كثيرة تختلف باختلاف الاستعدادات وسائر الجهات اختلافا كثيرا ، وتقدم ما يتعلق بها في سورة الفاتحة.