قوله تعالى : (بِالْغَيْبِ). الغيب هو خلاف الحضور والشهود فكلما لم يكن حاضرا في المدارك الجسمانية ومشهوداتها يكون من الغيب ولكنه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت والتحقق. والإيمان بالغيب هو الإعتقاد بما غاب عن النّاس من الموجودات والعوالم كعالم الملائكة وعالم البرزخ وعالم الآخرة وجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى من الأحكام بل نفس القرآن لأنه وان كان مشهودا للناس لكنه من الغيب من حيث معارفه وعلومه ، ويمكن أن يكون مشهودا من جهة ومن الغيب من جهة أخرى كالصّلاة فإنها عمل حاضر ولكنها ـ من حيث أن حافتي الصراط الصلاة وصلة الرحم ـ من الغيب. وكذا الحجر الأسود فإنه مستلم الحجيج ظاهرا فهو مشهود ، ولكن من حيث كونه يمين الله في الأرض يصافح بها مع عباده ـ كما في الحديث ـ من الغيب إلى غير ذلك.
والمراد بالغيب هنا هو الله تبارك وتعالى وكل ما أوحى إلى نبيه (صلىاللهعليهوآله) والدار الآخرة وما فيها من النشر والحشر والحساب والثواب والعقاب ، وقد أشار عزوجل إلى ذلك في ذيل الآية (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).
وإنما حثّ الله عباده على الإيمان بالغيب وعدم اقتصارهم على المحسوسات لأنه الأصل في الكمالات الإنسانية الباقية ، وبالإيمان به يسهل على الإنسان كلفة العمل فكأنه يرى فعلا ثمرة عمله بخلاف المقتصر على الحسن فإنّه وان بلغ الى غاية مراده لكن كماله الظاهري منحصر بالماديات فقط.
والغيب يستعمل في القرآن الكريم بمعان.
الأول : ما ذكر في هذه الآية المباركة وسائر الآيات المرغبة للإيمان.
الثاني : ما أضافه الله تعالى إلى نفسه مثل عالم الغيب والشهادة ، قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة التغابن ، الآية : ١٨] ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة هود ، الآية : ١٢٣] ، و : (أَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [سورة التوبة ، الآية : ٧٨] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة والمراد بهذا الغيب جميع ما سوى الله تعالى من حقائق المجردات