فلا فعل للروح إلّا بالبدن كما لا أثر للبدن إلّا بالروح الإنساني. واتفق جميع الفلاسفة على أنّ الأول من عالم المجردات والثاني من عالم المادة. وهذا يحتاج إلى تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.
نعم ، قد اختلفوا في خصوصيات هذين التوأمين حتّى وصل الحد بجمع منهم إلى الاعتراف بالقصور عن درك حقيقتهما وخصوصياتهما. وكيف كان فالروح نزلت من مقام شامخ ـ على ما يأتي ـ إلى حضيض المادة. والبدن مستعد إلى العروج من مرتبة الحضيض إلى أوج الروح فصار الإنسان جامعا للكمالين ومركبا من النشأتين فهو بفطرته لا يمكنه إنكار ما وراء المادة.
وقد يوجب أنه بالمادة والماديات انتقاله عن ما ورائها ، ولذا ترى يرجع إلى فطرته في حين وآخر ، فالإيمان بالغيب الذي حث الله تعالى إليه هو إرجاع الإنسان وسوقه الى فطرته والتوجه بمقام روحانيتهم بما أودع الله فيه من استعداده لدرك المعارف واكتساب الكمالات بعد إتمام الحجة عليه وعدم تدنيس ذلك المقام الرفيع باتباع الأهواء المضلة والآراء الباطلة.
وقد اتفق الفلاسفة على أنّ منشأ الإدراكات المعنوية والعلوم الكلية في الإنسان هو العقل ولا ينافي ذلك حصول علوم جزئية من غير طريقه. والعقل حجة في جميع إدراكاته بعد تمامية مقدمات الإدراك ومن جملتها الإيمان بالغيب ، وجميع التشريعات السماوية ، وان تكون المقدمات حاصلة مما أمر به الله تعالى الذي هو الجاعل والمشرع ، فلا بد وأن يكون مجعوله ومشروعه تحت سلطنته واختياره. والا لبطل النظام واختلت الأحكام. فكل إيمان بالغيب لم يحصل من طريق ما أمر الله تعالى به وأذن فيه ، فهو باطل لا اعتبار به ، بل يمكن أن يعاقب صاحبه سواء أكان ذلك في كيفية الإدراك أم خصوصيات المدرك ، ويأتي التفصيل في محله.
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هذه الآية كالبيان للإيمان بالغيب جيء بها اهتماما وتأكيدا ، ويمكن أن يقال : إنهم قسم آخر من المتقين وأعيد لفظ «الذين» لتحقيق التمايز بين القسمين وهذا القسم أرقى من القسم الأول لأن أوصافه تقتضي الأوصاف التي أجريت على القسم الأول مع الزيادة