مفاضة من ربهم عليهم.
بحث دلالي
إنما ذكر الإيمان بالغيب ابتداء ، لأنه أصل كل إيمان وأساس كل اعتقاد وعمل كما عرفت ثم عقبه تعالى بالصلاة ، لأنها أهم أركان الدين وانها الرابطة بين العبد ومعبوده ؛ ثم ذكر الإنفاق لأنه أعظم صلة بين أفراد الإنسان وبه يحصل التعاون بينهم وتطهر أموالهم ، فالآية باختصارها جمعت بين الأصول الاعتقادية وأهم الأعمال الجوارحية وأعظم الأمور الاجتماعية وهذا من إعجاز القرآن.
كما أنه ذكر تعالى المتقين في مفتتح القرآن العظيم إعلاما بأنّ التقوى هي الأصل الذي تدور عليه الكتب السماوية خصوصا القرآن وما يدعو اليه جميع الأنبياء والمرسلين لا سيما خاتم النبيين (صلىاللهعليهوآله) فذكر المتقين من باب ذكر المعلول إجمالا وتفصيل علته بعد ذلك والعلة إنما أجملت بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وفصلت ثانية في الآيات التالية.
ثم إنه تعالى ذكر (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) مع أن الآخرة من أفراد الغيب الذي ذكر في أول الآية وذلك لأجل التأكيد والأهمية بالنسبة إلى الآخرة فإن عماد النشأتين ـ الدنيا والآخرة ـ هو الإيمان بالمعاد بعد الإيمان بالله تعالى وبه تنتظم حياة الإنسان الفردية والاجتماعية. وأيضا إنّ الإيمان بالغيب إجمالا قد لا يكون كافيا في حث الإنسان على العمل الصالح وردعه عن عمل المنكر بخلاف من كان مؤمنا بالآخرة تفصيلا فإن أثره يظهر على أعماله فيكون مراقبا لنفسه ومن ذلك يظهر الوجه في ذكر اليقين في الآية الأخيرة.
واليقين بالآخرة يحصل تارة : بإخبار المعصوم بعد أن قامت الأدلة على عصمته ، وأخرى : بالنظر الصحيح والتفكر والتدبر في آيات الله تعالى وخلق الإنسان وأنّ الدار الدنيا التي هي دار الكون والفساد لا يمكن أن تكون دار النعيم للأبرار أو الجحيم للأشرار فحينئذ يحكم العقل بأنّ وراء هذه الدار