أخرى ، فعبر تعالى عن المرة الأولى ب (الطبع والختم) ، كما قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة النحل ، الآية : ١٠٨] وعن الثانية ب (الغشاوة) كما في الآية المباركة وما قلنا جار في جميع الآيات المسوقة في هذا البيان.
ويمكن أن يفرق بينهما بأن يقال : إن الطبع والختم إنما هو بالنسبة إلى المعنويات مطلقا والغشاوة بالنسبة إلى الظواهر من حيث إمكان الانتقال منها إلى المعنويات فهذه الجهة مسلوبة عنهم أيضا كما يستفاد ذلك من الآيات المباركة على ما سيأتي.
ثم إنه ليس المراد بالقلب والسمع والبصر في المقام ما هو الموجود في البهائم إذ ليس ذلك مناط الفضل حتى يختم عليه بل المراد منه العقل الذي يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان ويغلق به أبواب النيران وقد بينه الله تعالى بقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩] ، وبقوله جل شأنه : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سورة الزمر ، الآية : ٢٢]. ويستفاد من ذلك أن الختم على القلب وعلى سائر المدارك إنما يكون بالنسبة إلى عالم الغيب والمعارف الإلهية وذلك لا ينافي بقاء إدراكها بالنسبة إلى الجهات المادية الدنيوية بل نبوغها فيها لتغاير العالمين وتباين النشأتين وعدم ارتباط أحدهما بالآخر فكم من نابغة في الدنيا ليس له حظ في الآخرة وكم من عالم بما يتعلق بالآخرة لا توجه له بأمور الدنيا.
قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). العذاب بمعنى الحبس والمنع ، ومنه الماء العذب ، أي يمنع عن اختلاط شيء آخر ، أو لأنه يقمع العطش ويمنعه. وهو في القرآن اسم لما يؤلم ويمنع النفس عن جميع مشتهياتها من الخير. والعظيم ضد الحقير ويراد به العظمة من كل جهة كما وكيفا وزمانا ومكانا وهو يشمل