قوله تعالى : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). يمكن أن يكون التكرار ، لأجل أن الآية السابقة تحمل على المحال القريبة من المسجد الحرام ، والثانية على المحال البعيدة حتّى نفس بيت المقدس والأخيرة على تمام الربع المسكون ، ويمكن الحمل على حالتي الحضر والذهاب إلى السفر والإياب منه.
والابتداء بالخطاب للرسول (صلىاللهعليهوآله) فانه وإن كان كافيا في عموم التكليف ، إلّا أنه أراد سبحانه التأكيد بالنص وبيان أهمية الموضوع ، ولترتيب ما سيأتي. والضمير في قوله تعالى : (وُجُوهَكُمْ) يرجع إلى جميع المسلمين باعتبار وجود النبي الأعظم (صلىاللهعليهوآله) فيهم.
وكان النّاس في زمان تحويل القبلة طوائف ثلاث : اليهود ، والنصارى ، والمشركين ، والأولان كانا يعترضان عليه (صلىاللهعليهوآله) بأنه إذا كان نبي آخر الزمان فلما ذا لا يصلي إلى الكعبة المقدسة؟ ولم يصلي إلى قبلتنا؟ والمشركون كانوا يعترضون عليه بأنه لماذا يصلي إلى بيت المقدس مع أن الكعبة أقدم وأقدس؟ ثم الاعتراض أخيرا من المنافقين بأنّه ما الفائدة في هذا التشريع؟ فذكر سبحانه وتعالى أمورا ثلاثة لبيان حكمة التشريع والفائدة منه ، والجواب عن اعتراض المعترضين ودفع شبه المنافقين.
قوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ). هذا هو الأمر الأول. اللام لتعليل تحويل القبلة وتغييرها ، أي : لئلا يكون للمحاجين ـ وهم الطوائف المتقدمة ـ عليكم حجة وسلطان.
ومما تقدم يعرف انتفاء حجتهم ؛ لأن صلاة النبي (صلىاللهعليهوآله) إلى بيت المقدس ظاهرا كانت لمصالح ظاهرية وبذلك اندحضت حجة الفريقين.
قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). يصح أن يكون الاستثناء متصلا ، إن عممنا المستثنى منه إلى الأعم من الحجة الواقعية والحجة الاعتقادية الحاصلة عن العناد واللجاج.