المناسب إثبات أنّ العباديات جميعها ـ من الطواف حول الكعبة والسعي في المسعى ، والقيام بين يدي المولى ، والركوع ، والسجود والقنوت ، وغسل الوجه واليدين ، وما يفعل بالرأس والرجلين ـ من طرق توجه القلب إلى الله تعالى وعدم غفلته عنه والخضوع والخشوع لديه كل عضو بحسبه ، وهذا هو معنى الروح في العبادة ، والبقية بمنزلة اللفظ أو الجسد ، ولا فائدة في لفظ بدون المعنى وجسد بلا روح فيه.
وبعبارة أخرى : إنّ فعل الجوارح مع غفلة الروح والقلب مما يستنكره العقل والعقلاء فكيف يرضى به إله السماء.
الحكمة في تشريع القبلة :
ذكرنا أنّ القبلة الجديدة كانت حدثا نوعيا واجتماعيا الذي به تحفظ الوحدة بين المسلمين بعد أن كانوا متفقين في العبادة والمعبود ، وبها تميز المسلمون عن غيرهم واحتفظوا استقلاليتهم بعد ان كانوا تابعين.
والظاهر أنّ هذا التشريع النوعي الأبدي هو أول تشريع من نوعه في تاريخ الأديان الإلهية ، فلم تكن قبلة بهذه الخصوصية في الأديان السابقة. نعم كان لأهل الكتاب قبلة معينة ولكنها كانت محدودة وموقّتة ، فقد ورد في شأن موسى وأخيه أن أوحى الله تعالى إليهما أن يجعلا بيوتهما قبلة لقومهما ، قال تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة يونس ، الآية : ٨٧] ولكنه كان محدودا بحدود خاصة زمانية ومكانية.
ويظهر من بعض الآثار أنّ قبلة اليهود كانت هي التابوت وكانوا يستقبلونه إذا كان معهم في أسفارهم ثم يضعونه عند صخرة بيت المقدس ويصلون إليه ثم عظم مكانه فصار قبلتهم.
وأما قبلة النصارى فكانت شرقي بيت المقدس باعتبار كونه مولد عيسى (عليهالسلام) ومدفنه عندهم ، ولم يثبت بدليل يصح الاعتماد عليه أنّ قبلة الطائفتين كانت بوحي سماوي أو هي كسائر مقترحاتهم التي اقترحوها من عند أنفسهم.