وأما الثاني أي الرجوع الاختياري اليه عزوجل فهو أن يهيئ الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر والضمائر حضور مجازاة لما فعل وعمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالى بهذا النحو من الحضور.
وبعبارة أخرى : إن هبوط الإنسان من المحل الأرفع الأعلى الى الحضيض الأسفل لا يوجب أن ينسى الإنسان ما نزل منه وأن يتدنس بما وقع فيه ، ولا بد له من التفكر بالعروج والصعود وهذا هو الاسترجاع العملي ولا ينفع مجرد الاسترجاع القولي. وللاسترجاع العملي مراتب كثيرة ومقامات شريفة فصّلها العرفاء في كتبهم العرفانية.
قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ). بيان لبعض مراتب البشارة بعد ذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة.
والصلاة هي التحية ، والتزكية ، والبركة والثناء الجميل. والجمع باعتبار الكثرة والتعدد من نوع واحد أو أنواع متعددة حسب مراتب المصيبة وشدتها.
وأما الرحمة فهي مطلق النعمة عاجلها أو آجلها. وإنما أتى بالجنس تعميما لكل رحمة يكون المورد قابلا لها في العاجل وهي حسن العزاء والتوفيق. للرضا والتسليم بالقضاء ، وفي الآجل من المغفرة والأجر الجزيل ، فهو تعالى رحيم بهم أي رحمة مما يجدون أثرها في هذه الدنيا والآخرة.
قوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). الاهتداء إصابة طريق الحق في الدنيا ، والجنّة في العقبى فهم المستعدون لنيل سعادة الدارين. ولا ريب في تحقق الاهتداء في الاسترجاع القلبي العملي.
وإتيان الجملة الاسمية المعرّفة الطرفين ، والتأكيد بضمير المنفصل يؤكد أن هذه الأوصاف لا تكون إلّا في من صبر وسلّم الأمر إلى الله تعالى واعترفوا بأنّهم لله وأنهم اليه راجعون.