والمعنى : إنّ ذلك الذي تقرر في شأنهم إنّما هو بسبب أنّ الكتاب نزل بالحق وأنّهم على الباطل ، ولا يمكن للباطل مغالبة الحق الذي هو بيّن دلائله وواضح معالمه.
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ). الاختلاف ضد الاتفاق الذي لا ينفك عنه كل مجتمع المنتهي إلى الاختلاف في الأفكار ، وهو ينتهي إلى الاختلاف في الفهم والاستعدادات ، وهو طبيعي بالنسبة إلى الإنسان ، ولذلك وجب الرجوع إلى الكامل في تدبير شؤون المجتمع وادارته ، وإلّا انتهى الأمر إلى التنابذ والاختلاف واختلال النظام ، وقد جعلوا ذلك من الأدلة العقلية على وجوب وجود النبي والإمام بين النّاس.
والشقاق عبارة أخرى عن الاختلاف كأن كل واحد من المختلفين يصير في شق ، وفي الدعاء المأثور : «اللهم إنّي أعوذ بك من الشقاق والنفاق» والمراد به هنا الاختلاف البعيد أي : آخر مراتب الشقاق الذي لا يمكن فيه الايتلاف بوجه من الوجوه.
ومن ذلك يعلم أن الاختلاف في الكتاب وأمور الدين موجب للابتعاد عن الصراط المستقيم الذي يدعوا اليه الكتاب ، والسلك في سبل متعددة ، والابتعاد عن الحق قال تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٥٣].
بحث دلالي :
تدل الآيات الكريمة على أمور :
الأول : أنّ قوله تعالى : (ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) يدل على تجسم الأعمال ، وسنخية العقاب مع العمل ، فان كتمانهم للحق كان لأجل كسب المال والجاه والاستفادة منه في إشباع بطونهم وكان جزاء هذا العمل الشنيع ان أبدل الله تعالى تلك الأثمان إلى النار التي تستعر في بطونهم ، نظير ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ