وارتزاق أهل هذا البلد من الثمرات من أسرار البيت العظيم ، وهو ظاهر معروف ، وقد ورد بيانه في آية أخرى ، فقال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [سورة القصص ، الآية : ٥٧]. ويصح في المقام إرادة الأعم فلأهل الظاهر ثمرات الأشجار ولأهل المعنى المعنويات كل بحسب استعداده.
إن قيل : دعاء إبراهيم (عليهالسلام) لا يختص بأم القرى ، لأن جميع البلاد التي تزدحم فيها الرواد والقوافل من أنحاء العالم تكون كذلك ـ خصوصا في هذه الأعصار ـ وكذا قوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [سورة القصص ، الآية : ٥٧] ، وكذا قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [سورة البقرة ، الآية : ١٢٦] فإنه من سبر الطبيعة مطلقا.
يقال : استجابة دعاء إبراهيم (عليهالسلام) في مكة وأهله من بدء وروده إلى الحرم ؛ وذلك لا ينافي صيرورة محال أخرى موارد رزق الله تعالى لمصالح لا يعلمها إلّا الله عزوجل ، مع أن دعاءه (عليهالسلام) كان دائميا بدوام الدنيا وعمرها بخلاف غيرها ، فإنه في معرض الزوال والتبدل ، وسيأتي التفصيل في الآيات المباركة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). ذكر تعالى اسم الجلالة ولم يأت بضمير الخطاب ، مع أن المقام مقام المخاطبة تعظيما وتجليلا وقد عمّم إبراهيم (عليهالسلام) دعاءه لرزق أهل هذا البلد لبيان أن الرزق العام الربوبي لا يختص بالمؤمنين وإنما خصهم تعظيما لشأن المؤمنين ، فكأنهم المقصودون المستقلون لرزق الثمرات فجمع (عليهالسلام) بين غاية رزق الثمرات وما يدور عليه النظام في ارتزاق الجميع. وتقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة ، وإنما خصه بالمبدأ والمعاد ، لأن الإيمان باليوم الآخر مستلزم للإيمان بالأنبياء (عليهمالسلام).
قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). بعد ما استجاب الله تعالى ـ بعظيم لطفه وواسع رحمته ـ دعاء إبراهيم (عليهالسلام) وخص الأرزاق المعنوية بالمؤمنين وعمم رزق الدنيا