أي : قالت اليهود إنّ دينهم على الحق وأنّ الهداية محصورة في اليهودية ، وكذلك ادعت النصارى ، بل إنّ ذلك معتقد كل ذي دين أنّ دينهم خير الأديان ، وأنّ كتابهم أبدي لا يقبل التغيير والتبديل ، وطرق الهداية منحصرة في دينه ، ومقتضى ذلك أن يدعو كل واحد من الفريقين النّاس إلى دينه ، وهذا النوع من المنهج من الفطريات لكل من يعتقد بشيء ويرى صحته ، وهو من الجهل المركب وداء ابتلي به جميع الأمم حتّى بعض فرق المسلمين الذي يعتقد صحة مذهبه أو عقيدته وبطلان غيرهما ، وقد أبطل سبحانه مدعاهم بدليل إلزامي لهم ، فقال مخاطبا لنبيه (صلىاللهعليهوآله) إتماما للحجة والبيان ، وتلقينا للبرهان ، وتثبيتا لشريعته ونبوته ، بل إظهارا للوحدة بين أصل الوحي وقول الموحى اليه في الحجية ، وتوطئة لأمر المسلمين بهذا المقال.
قوله تعالى : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً). مادة (حنف) تأتي بمعنى الميل أي : الميل من الضلالة إلى الهداية ومن الباطل إلى الحق فصارت تطلق على الموحد التابع لدين الحق ، وهي بخلاف (جنف) فانه الميل من الحق إلى الباطل.
وقد استعملت هذه المادة بالنسبة إلى ملة إبراهيم في القرآن الكريم كثيرا ، قال تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة آل عمران ، الآية : ٩٥] وقال تعالى : (دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [سورة الأنعام ، الآية : ١٦١] وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة النحل ، الآية : ١٢٠]. وتطلق على أصل الملة والدين أيضا ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [سورة الروم ، الآية : ٣٠]. وفي الحديث : «أحب الأديان إلى الله تعالى الحنيفية السمحة».
والوجه في إطلاق الحنيفية على إبراهيم وملته دون غيره من الأنبياء السابقين أنّ إبراهيم كان في قوم مشركين ، عبدة الأوثان وقد جاهد (عليهالسلام) في دعوتهم الى التوحيد ونبذ الأوثان وعبادتها وابتلى من قومه بما ابتلى حتّى اختاره الله تعالى لأقصى درجات الخلة والإمامة ومنحه الملة التي