الثالث : الجعل الذي يكون تمام سببه كمال العبد في نفسه بينه وبين الله تعالى ، وهذا القسم كثير في القرآن الكريم أيضا ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) [سورة السجدة ، الآية : ٢٤].
والجعل في المقام من هذا القسم ، حيث أن أمة محمد (صلىاللهعليهوآله) هم الوسط في جميع المعارف والكمالات النفسية ، ودينهم هو الحد الفاصل بين الروحانية البحتة والمادية الصرفة ولأجل ذلك صاروا شهداء على النّاس جعلا تفضليا ، ولكنه يستلزم الجعل التشريعي الإلهي في المعارف والأحكام وسائر الكمالات النفسية ، إلّا أن ذلك لا يستلزم كون جميع الأمة شهداء ، وتوجيه الخطاب إلى النوع وارادة الصنف شايع في المحاورات العرفية لأغراض ومصالح ، والقرآن ورد على هذا الطريق المحاوري المقبول ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٧٣] وغيره مما يكون فيه الظهور الاستعمالي العموم ، والمراد الحقيقي هو الشخصي الخارجي ، كما أن عكسه أيضا صحيح ووارد في القرآن الكريم. قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [سورة الطلاق ، الآية : ١] وليس ذلك من المجاز في شيء ، كما أثبتناه في الأصول ، بل هو من شؤون البلاغة والفصاحة لإفادة فوائد مختلفة.
قوله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً). إنما جيء بلفظ «على» لبيان الإحاطة والاستيلاء لجميع أعمال المشهود عليهم جليّاتها وخفياتها ، فهو (صلىاللهعليهوآله) الحجة الإلهية بالنسبة إلى عباده ، لأنه الفرد الأكمل في الكمالات الإنسانية والمعارف الإلهية. وتشمل الآية المباركة جميع أنحاء شهاداته (صلىاللهعليهوآله) كشهادته بالإبلاغ وإتمام الحجة ، وشهادته لبعضهم بالإطاعة وعلى الآخرين بالمخالفة ، وشهادته على أمته بالاستقامة والانحراف ، فهو الشاهد على جميع أمته في عالم الجمع.
وذكر شهادة الرسول عقيب شهادة الأمة من قبيل ذكر العلة بعد ذكر المعلول ، يعني تكونوا شهداء على الناس ، لأن الرسول شهيد عليكم بأنّكم