إلى ما يتصوره أكثر الناس من الحيوانات الصغار التي لم يخطر ببال عامّة الناطقين باللغة. فإذا قيل : إنه حقيقة في هذا ، فلما ذا لا يكون حقيقة في رأس الجبل ، والطريق ، والعين؟ وكذلك سائر ما يضاف إلى الإنسان من أعضائه وأولاده ومساكنه ، يضاف مثله إلى غيره ، ويضاف ذلك إلى الجمادات ، فيقال : رأس الجبل ، ورأس العين ، وخطم الجبل ـ أي أنفه ـ وفم الوادي ، وبطن الوادي ، وظهر الجبل ، وبطن الأرض وظهرها ، ويستعمل مع الأنف ، وهو لفظ الظاهر والباطن في أمور كثرة.
والمعنى في الجميع : أنّ الظاهر لما ظهر فتبيّن ، والباطن لما بطن فخفي. وسمي ظهر الإنسان ظهرا لظهوره ، وبطن الإنسان بطنا لبطونه ، فإذا قيل : إن هذه حقيقة ، وذاك مجاز ، لم يكن هذا أولى من العكس. وأيضا من الأسماء ما تكلم به أهل اللغة مفردا ، كلفظ الإنسان ونحوه. ثم قد يستعمل مقيدا بالإضافة ـ كقولهم : إنسان العين ، وإبرة الذراع ، ونحو ذلك ـ وبتقدير أن يكون في اللغة حقيقة ومجاز ، فقد ادعى بعضهم أن هذا من المجاز ، وهو غلط ، فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا ، وهذا لم يستعمل اللفظ بل ركب مع لفظ آخر ، فصار وضعا آخر بالإضافة ، فلو استعمل مضافا في معنى ، ثم استعمل بتلك الإضافة في غيره ، كان مجازا. بل إذا كان (بعلبك وحضرموت ونحوهما) مما يركب تركيب مزج ـ بعد أن كان الأصل فيه الإضافة ـ لا يقال : إنه مجاز ، فما لم ينطق به إلّا مضافا أولى أن لا يكون مجازا. وأما من فرّق بين الحقيقة والمجاز ، بأن الحقيقة : ما يفيد المعنى مجردا عن القرائن ، والمجاز : ما لا يفيد ذلك المعنى إلا مع قرينة أو قال : الحقيقة ما يفيده اللفظ المطلق ، والمجاز ما لا يفيد إلا مع التقييد. أو قال : الحقيقة هو المعنى الذي يسبق إلى الذهن عند الإطلاق ، والمجاز ما لا يسبق إلى الذهن. أو يقال : المجاز ما صح نفيه ، والحقيقة ما لم يصح نفيها. فإنه يقال : ما تعني بالتجريد عن القرائن ، والاقتران بالقرائن؟ إن عنى بذلك : القرائن اللفظية ، مثل كون الاسم يستعمل مقرونا بالإضافة ، أو لام التعريف ، ويقيد بكونه فاعلا ومفعولا ومبتدأ وخبرا ، فلا يوجد قط في الكلام المؤلف اسم إلا مقيدا. وكذلك الفعل ، إن عنى بتقييده أنه لا بد له من فاعل. وقد يقيد بالمفعول به ، وظرفي الزمان والمكان ، والمفعول له ومعه ، والحال ، فالفعل لا يستعمل قط إلا مقيدا ، وأما الحرف فأبلغ ، فإن الحرف أتى به لمعننى في غيره. ففي الجملة لا يوجد قط ـ في كلام تام ـ اسم ولا فعل ولا حرف إلا مقيدا بقيود تزيل عنه الإطلاق. فإن كانت القرينة ما يمنع الإطلاق عن كل قيد ، فليس في الكلام الذي يتكلم به جميع الناس لفظ مطلق عن كل قيد ، سواء كانت