فإن قيل : أريد بعض القرائن دون بعض. قيل له : اذكر الفصل بين القرينة التي يكون معها حقيقة ، والقرينة التي يكون معها مجاز ، ولن تجد إلى ذلك سبيلا تقديره على تقسيم صحيح معقول. ومما يدلّ على ذلك ، أن الناس اختلفوا في العام إذا خصّ هل يكون استعماله فيما بقي حقيقة أو مجازا؟ وكذلك لفظ الأمر إذا أريد به الندب هل يكون حقيقة أو مجازا؟ وفي ذلك قولان لأكثر الطوائف : لأصحاب أحمد قولان ، ولأصحاب الشافعيّ قولان ، ولأصحاب مالك قولان. ومن الناس من ظنّ أنّ هذا الخلاف يطرد في التخصيص المتصل ـ كالصفة والشرط والغاية والبدل ـ وجعل يحكي في ذلك أقوال من يفصل ، كما يوجد في كلام طائفة من المصنّفين في أصول الفقه ، وهذا مما لم يعرف أن أحدا قاله ، فجعل اللفظ العام المقيد في الصفات والغايات والشروط مجازا. بل لما أطلق بعض المصنفين أن اللفظ العام إذا خصّ يصير مجازا ، ظنّ هذا الناقل أنه عنى التخصيص المتصل ، وأولئك لم يكن في اصطلاحهم عام مخصوص إلّا إذا خصّ بمنفصل ، وأما المتّصل فلا يسمّون اللفظ عاما مخصوصا ، فإنه لم يدلّ إلّا متصلا ، والاتصال منعه العموم. وهذا اصطلاح كثير من الأصولين ، وهو الصواب. لا يقال لما قيد بالشرط والصفة ونحوهما : أنه داخل فيما خصّ من العموم ، ولا في العام المخصوص ، لكن يقيد ، فيقال : تخصيص متصل ، وهذا المقيّد لا يدخل في التخصيص المطلق.
وبالجملة فيقال : إذا كان هذا مجازا فيكون تقييد الفعل المطلق بالمفعول به ، وبظرف الزمان والمكان ـ مجازا. وكذلك بالحال ، وكذلك كلّ ما قيّد بقيد ، فيلزم أن يكون الكلام كلّه مجازا ، فأين الحقيقة؟
فإن قيل : يفرق بين القرائن المتصلة والمنفصلة ، فما كان مع القرينة المتصلة فهو حقيقة ، وما كان من المنفصلة كان مجازا. قيل : تعني بالمتصل ما كان في اللفظ أو ما كان موجودا حين الخطاب؟ فإن عنيت الأول أن يكون ما علم من حال المتكلم أو المستمع أولا ـ قرينة منفصلة. فما استعمل بلام التعريف لما يعرفانه كما يقول : قال النبي صلىاللهعليهوسلم. وهو عند المسلمين رسول الله ، أو قال الصديق وهو عندهم أبو بكر. وإذا قال الرجل لصاحبه : اذهب إلى الأمير أو القاضي أو الوالي ـ يريد ما يعرفانه أن يكون مجازا. وكذلك الضمير يعود إلى معلوم غير مذكور كقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [الدخان : ٣] وقوله (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢] وأمثال ذلك ـ أن يكون هذا مجازا. وهذا لا يقوله أحد.