الكل ، وإنما جيء ذكر الجنات ـ مشفوعا بذكر الأنهار الجارية ـ لما أنّ أنزه البساتين ، وأكرمها منظرا ، ما كانت أشجاره مظلّلة ، والأنهار في خلالها مطّردة ، وفي ذلك النعمة العظمى واللذة الكبرى. واللام في الأنهار : للجنس : كما في قولك : لفلان بستان فيه الماء الجاري ـ أو للعهد. والإشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ ...) [محمد : ١٥] الآية.
(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها) ـ أي : أطعموا من تلك الجنات ـ (مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) ـ أي : مثل الذي رزقناه من قبل هذا الذي أحضر إلينا ـ فالإشارة إلى المرزوق في الجنّة لتشابه ثمارها. بقرينة قوله (وَأُتُوا بِهِ) ـ أي : أتتهم الملائكة والولدان برزق الجنة ـ (مُتَشابِهاً) يشبه بعضه بعضا لونا ، ويختلف طعما ، وذلك أجلب للسرور ، وأزيد في التعجّب ، وأظهر للمزّية ، وأبين للفضل. وترديدهم هذا القول ، ونطقهم به ـ عند كل ثمرة يرزقونها ـ دليل على تناهي الأمر في استحكام الشّبه ، وأنّه الذي يستملي تعجّبهم ، ويستدعي استغرابهم ، ويفرط ابتهاجهم. فإن قيل : كيف موقع قوله (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) من نظم الكلام؟ قلت : هو كقولك : فلان أحسن بفلان ، ونعم ما فعل. ورأى من الرأي كذا ، وكان صوابا. ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل : ٣٤]. وما أشبه ذلك من الجمل التي تساق في الكلام معترضة للتقرير.
(وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) من الحيض والاستحاضة وما لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس ـ ويجوز لمجيئه مطلقا ، أن يدخل تحته الطهر من دنس الطباع ، وسوء الأخلاق وسائر مثالبهنّ وكيدهنّ.
وقوله تعالى : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) هذا هو تمام السعادة ، فإنّهم ـ مع هذا النعيم ـ في مقام أمين من الموت والانقطاع ، فلا آخر له ولا انقضاء. بل في نعيم سرمديّ أبديّ على الدوام. والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم. إنه البر الرحيم.
ولمّا ضرب تعالى ـ فيما تقدم ـ للمنافقين مثلين : في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ...) إلخ. وقوله (أَوْ كَصَيِّبٍ ...) إلخ. إلى أمثال أخرى تقدّمت على نزول هذه السورة ، من السّور المكية ، ضربت للمشركين ـ نبّه تعالى إلى موضع العبرة بها ، والحكمة منها ، وتضليل من لا يقدّرها قدرها ـ ممّن يتجاهل عن سرّها ، ويتعامى عن نورها ، ويحول دون الاهتداء بها ، والأخذ بسببها ـ فقال سبحانه :