تبين وصف البشرية وما تنازعوا فيه منها. وبأيّ وجه تكون على أكمل وجوهها ، حتى تستحق الاصطفاء والاجتباء من الله تعالى ، فافتتحت السورة بثلاث جمل : إحداها ، وهي الآكد في المقام ، بيان الأوصاف المكتسبة للعبد. التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه. وذلك قوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١ ـ ١١] والثانية بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له ، جاريا على مجاري الاعتبار والاختيار. بحيث لا يجد الطاعن ، إلى من هذا حاله ، سبيلا. والثالثة. بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة. وإن ذلك له بتسخير السماوات والأرض وما بينهما. وكفى بهذا تشريفا وتكريما. ثم ذكرت قصص من تقدم مع أنبيائهم واستهزائهم بهم بأمور. منها كونهم من البشر. ففي قصة نوح مع قومه قولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون : ٢٤]. ثم أجمل ذكر قوم آخرين أرسل فيهم رسولا منهم ، أي من البشر ، لا من الملائكة : فقالوا (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) [المؤمنون : ٣٣] الآية (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [المؤمنون : ٣٤]. ثم قالوا : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [المؤمنون : ٣٨] أي هو من البشر. ثم قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ، كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) [المؤمنون : ٤٤] فقوله : (رَسُولُها) مشيرا إلى أن المراد رسولها الذي تعرفه منها. ثم ذكر موسى وهارون وردّ فرعون وملئه بقولهم : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) [المؤمنون : ٤٧] إلخ. هذا كله حكاية عن الكفار الذين غضوا من رتبة النبوءة بوصف البشرية ، تسلية لمحمد عليهالسلام. ثم بيّن أن وصف البشرية للأنبياء لا غضّ فيه ، وأن جميع الرسل إنما كانوا من البشر ، يأكلون ويشربون ، كجميع الناس ، والاختصاص أمر آخر من الله تعالى. فقال بعد تقرير رسالة موسى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠] وكانا مع ذلك يأكلان ويشربان. ثم قال : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون : ٥١] أي هذا من نعم الله عليكم ، والعمل الصالح شكر تلك النعم ، ومشرّف للعامل به. فهو الذي يوجب التخصيص ، لا الأعمال السيئة. وقوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون : ٥٢] إشارة إلى التماثل بينهم وأنهم جميعا مصطفون من البشر. ثم ختم هذا المعنى بنحو مما به بدأ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) إلى قوله : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [المؤمنون : ٥٧ ـ ٦١].
وإذا تأمل هذا النمط من أول السورة إلى هنا ، فهم أن ما ذكر من المعنى هو