وحينما يقول الهروي : «الثقة سواد عين التوكل ، ونقطة دائرة التفويض ، وسويداء قلب التسليم» يذكر ابن القيم ان مراد الهروي بهذا هو أن «الثقة» خلاصة التوكل ولبه ، كما أن سواد العين أشرف ما في العين ، وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض ، الى أن مدار التوكل عليه ، وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة. فان النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ، ونسبة جهات المحيط اليها نسبة واحدة ، وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها ، كذلك «الثقة» هي النقطة التي يدور عليها التفويض.
وكذلك قوله : «وسويداء قلب التسليم» فان القلب أشرف ما فيه سويداؤه ، وهي المهجة التي تكون بها الحياة ، وهي في وسطه ، فلو كان التفويض قلبا لكانت الثقة سويداءه ، ولو كان عينا لكانت سوادها ، ولو كان دائرة لكانت نقطتها.
* * *
والتفويض ـ كما يراه أطباه الارواح ـ درجات ، الاولى ان يعلم العبد أنه لا يملك استطاعة قبل ان يعمل ، فالاستطاعة بيد الله تعالى لا بيد الانسان ، وان لم يعطه الله سبحانه استطاعة فهو عاجز.
والدرجة الثانية أن يعاين الانسان فقره وضرورته الى الله عزوجل ، فيرى ان كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة وفقر الى الله ، ويوقن بأن نجاته انما هي بالله ، لا بعمله.
والدرجة الثالثة أن يشهد انفراد الله الحق بملك الحركة والسكون ، فهو سبحانه الباسط القابض ، وهو عز شأنه المتصرف في كل شيء وكل أمر : «ألا الى الله تصير الامور».
واذا كان ابن القيم يرى أن درجة التفويض دون درجة التوكل ، فان أبا علي الدقاق يسلك طريقا آخر ، لأنه يجعل التوكل ثلاث درجات : التوكل ، ثم التسليم ، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن الى وعده ، وصاحب