(كُتِبَ عَلَيْكُمْ) أي : فرض عليكم فرضا مؤكّدا بمثابة المكتوب الذي لا يمحى ولا يعتوره تغيير (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) أي : قرب نزوله به بأن قرب مفارقته الحياة (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي : مالا يورث (الْوَصِيَّةُ) أي : المعهودة ، وهي وصيّة الله سبحانه وتعالى في إيتاء كل ذي حقّ حقّه ، على ما بينته تلك الآية (لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) أي : في إبلاغهم فرضهم المبين في آية (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) فإنه أجمع آية (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) تأكيد للكتابة بأنها أمر ثابت لا يسوغ التسامح فيه بوجه ما (فَمَنْ بَدَّلَهُ) أي : هذا المكتوب الحقّ (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) أي : فعلم الحق المفروض فيه (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : فلا يخفى عليه شيء من حال الممتثل والمبدّل ، وقوله تعالى (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) أي : ميلا عمّا فرضه تعالى (أَوْ إِثْماً) أي : بقطع من يستحقّ عن حقّه ، لما لا تخلو عنه كثير من الأنفس التي لم يدركها نور التهذيب (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي : بأمر رضي به الكل (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي : لأنّ الصلح جائز إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ، والله أعلم. المنقول من الدفتر.
القول في تأويل قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣)
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ) ـ فرض ـ (عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
واعلم أنّ مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم ، وإحسانا إليهم ، وحميّة ، وجنّة ..! فإن المقصود من الصيام : حبس النفس عن الشهوات ، وفطمها عن المألوفات ، وتعديل قوتها الشهوانية ، لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكو به ممّا فيه حياتها الأبدية ..! ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها ، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين ..! وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب ، وحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، ويسكن كلّ عضو منها وكلّ قوّة عن جماحها ، وتلجم بلجامه ، فهو لجام المتقين ، وجنّة المجاهدين ، ورياضة الأبرار والمقرّبين ..! وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ، فإنّ الصائم لا يفعل شيئا ، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل