القول في تأويل قوله تعالى :
(مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٤)
(مِنْ قَبْلُ) متعلق بـ (أَنْزَلَ) ، أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب. والتصريح به مع ظهور الأمر ، للمبالغة في البيان (هُدىً لِلنَّاسِ) أي لقوم موسى وعيسى. أو ما هو أعم. لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) وهو الكتب السماوية التي ذكرها. لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل. أو هو القرآن. وإنما كرر ذكره بما هو نعت له ، ومدح له ، من كونه فارقا بين الحق والباطل ، بعد ما ذكره باسم الجنس ، تعظيما لشأنه ، وإظهارا لفضله ، قال الرازيّ : أو يقال إنه تعالى أعاد ذكره ليبيّن أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل ، ليجعله فرقا بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل. وعلى هذا التقدير فلا تكرار. ثم استظهر حمل الفرقان على المعجزات التي قرنها الله تعالى بإنزال هذه الكتب الفارقة بين دعواهم ودعوى الكذابين. قال : فالفرقان هو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة. انتهى.
ويجوز أن يكون المراد بالفرقان (الميزان) المشار إليه في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد : ٢٥]. والميزان هو العدل في الأمور كلها ؛ واللفظ مما يشمل ذلك كله لتلاقيها في المعنى.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي جحدوا بها (لَهُمْ) بسبب كفرهم بها (عَذابٌ شَدِيدٌ) وهذا الوعيد. جيء به إثر ما تقدم حملا على الإذعان ، وزجرا عن العصيان (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغالب يفعل ما يشاء (ذُو انْتِقامٍ) أي معاقبة ، يقال : انتقم الله منه : عاقبه. والنقمة : المكافأة بالعقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى :
(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٥)
(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي هو مطلع على كفر من كفر وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه.