بما نسخه الله ، مما ألقاه الشيطان. ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا ، حتى يقول هذه الآية محكمة ليست منسوخة ، ويجعل المنسوخ ليس محكما ، وإن كان الله أنزله أوّلا اتباعا للظاهر من قوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ). فهذه ثلاثة معان تقابل المحكم ، ينبغي التفطن لها. وجماع ذلك أن الإحكام تارة يكون في التنزيل. فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان. فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من الاشتباه بغيره ، وفصل منه ما ليس منه ، فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ، ولهذا دخل فيه معنى المنع ، كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه ، لا جميع معناه ، وتارة يكون في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع ، وهو اصطلاحيّ. أو يقال (وهو أشبه) : السلف كانوا يسمون كل رفع نسخا ، سواء كان رفع حكم ، أو رفع دلالة ظاهرة ، فكل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح ، كتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، فهو منسوخ في اصطلاح السلف. وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلّغ ، وقد يكون في مسمع المبلّغ ، وقد يكون في فهمه ، كما قال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الرعد : ١٧]. ومعلوم أن من سمع ، سمع النص الذي قد رفع حكمه ، أو دلالة له ، فإنه يلقى الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ ، فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به رفع الحكم ، وبان المراد. وعلى هذا التقدير ، فيصح أن يقال : المتشابه والمنسوخ. بهذا الاعتبار. والله أعلم.
وتارة يكون الإحكام في التأويل والمعنى ، وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها ، حتى لا تشتبه بغيرها. وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا. فتكون محتملة للمعنيين ، ولم يقل في المتشابه (لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله) ، وإنما قال : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع. فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو. والوقف هنا. على ما دل عليه أدلة كثيرة ، وعليه أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وجمهور التابعين ، وجماهير الأمة. ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره ، بل قال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) [ص : ٢٩]. وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات. وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ، وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء : ٨٢]. ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره. والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله