المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به ، وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول ، أو هو محمول على كذا ، قال الآخر : هذا نوع تأويل ، والتأويل يحتاج إلى دليل. والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه ، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر ، وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات ، إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل ، أو ذم التأويل ، أو قال بعضهم : آيات الصفات لا تؤول ، وقال الآخر : بل يجب تأويلها ، وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ، يترك عند المصلحة ، أو يصح للعلماء دون غيرهم ، إلى غير ذلك من المقالات والتنازع.
وأما لفظ التأويل في لفظ السلف فله معنيان :
أحدهما ـ تفسير الكلام وبيان معناه ، سواء وافق ظاهره أو خالفه ، فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا ، وهذا ـ والله أعلم ـ هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله. ومحمد بن جرير الطبريّ يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا. واختلف أهل التأويل في هذه الآية. ونحو ذلك ، ومراده التفسير.
والمعنى الثاني ـ في لفظ السلف وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا هو نفس المراد بالكلام. فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب. وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به. وبين هذا المعنى والذي قبله بون. فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم ، والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح. ويكون وجود التأويل في القلب واللسان ، له الوجود الذهنيّ واللفظيّ والرسميّ. وأما هذا ، فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة. فإذا قيل : طلعت الشمس ، فتأويل هذا نفس طلوعها. وهذا الوضع والعرف. الثالث هو لغة القرآن التي نزل بها. وقد قدمنا التبيين في ذلك. ومن ذلك قول يعقوب عليهالسلام ليوسف : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) [يوسف : ٦]. وقوله : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ ، قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً ، وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ، نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ. إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ)