بالإنعام فتخصيص خاص ، والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص ، وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا.
الثاني ـ يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا ، فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ، ودلالته أتم ، فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة؟ مع أن النصوص تفرق. فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل.
الثالث ـ يقال له : إذا قال لك الجهميّ : الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه ، أو نفس الفعل والأمر به ، وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا إن قال بقدمها ، ومحذورا إن قال بحدوثها.
وهنا اضطربت المعتزلة. فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم. ولا يقولون بتجدد صفة له ، لامتناع حلول الحوادث عن أكثرهم. مع تناقضهم.
فصاروا حزبين :
البغداديون ـ وهم أشد غلوّا في البدعة في الصفات وفي القدر ، نفوا حقيقة الإرادة. وقال الجاحظ : لا معنى لها إلا عدم الإكراه. وقال الكعبيّ : لا معنى لها إلا نفس الفعل ، إذا تعلقت بفعله ، ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده.
والبصريون ـ كأبي عليّ وأبي هاشم. قالوا : تحدث إرادة لا في محل ، فلا إرادة. فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل ، وكلاهما عند العقل معلوم الفساد بالبديهة. كان جوابه : أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال ، والنص قد دل عليها ، والفعل أيضا. فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل ، جعله مسفسطا أو مقرمطا ، وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة ، فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعيّ.
ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة ، وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير ، وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني ، وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار ، كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ، فإن ذلك لا يستلزم حدوثا ولا تركيبا مقتضيا حاجة إلى غيره.