أرواح غيرهم في ذلك ، بل بمعنى أنهم (يُرْزَقُونَ) رزق الأحياء ، لا رزقا معنويّا ، بل حقيقيا. كما روى ابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال (١) : لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم ، حسن منقلبهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب. فقال الله عزوجل : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات : (وَلا تَحْسَبَنَّ ...) إلخ. هكذا رواه الإمام أحمد ؛ ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه. وأخرج مسلم (٢) عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا ...) إلخ. فقال : أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال : أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ، ثم تأوى إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال : هل تشتهون شيئا؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟! ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا.
وروى الإمام أحمد (٣) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : الشهداء على بارق ـ نهر بباب الجنة ـ فيه قبة خضراء ، يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية ـ تفرد به أحمد ـ ورواه ابن جريح بإسناد جيد.
قال ابن كثير : وكأنّ الشهداء أقسام : منهم من تسرح أرواحهم في الجنة ، ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة. وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر ، فيجتمعون هنالك ، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح ـ والله أعلم ـ ثم قال : وقد روينا في مسند الإمام أحمد (٤) حديثا فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها ، وتأكل من ثمارها ، وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعدّ الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم ، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة ، فإن الإمام أحمد
__________________
(١) أخرجه في المسند ١ / ٢٦٦.
(٢) أخرجه مسلم في : الإمارة ، حديث ١٢١.
(٣) أخرجه في المسند ١ / ٢٦٦.
(٤) أخرجه في المسند ٣ / ٤٥٥.