القول في تأويل قوله تعالى :
(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (١٧٩)
(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ) أي يترك (الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من الالتباس بالمنافقين ، وبل لا يزال يبتليكم (حَتَّى يَمِيزَ) المنافق (الْخَبِيثَ مِنَ) المؤمن (الطَّيِّبِ وَ) لا يميز إلا بهذا الابتلاء لأنه (ما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي الذي يميز به ما في قلوب الخلق من الإيمان والكفر (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) باطلاعه على الغيب ، كما أوحى إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم بما ظهر منهم من الأقوال والأفعال ، حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف ، فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ، ويخلصكم من سوء جوارهم.
قال ابن القيّم : هذا استدراك لما نفاه من اطلاع خلقه على الغيب ، كما قال (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ـ ٢٧] فحظكم أنتم وسعادتكم في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، في الإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله ، فإن آمنتم به واتقيتم كان لكم أعظم الأجر والكرامة ، كما قال تعالى (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) الذين اجتباهم للاقتداء بهم في الاعتقادات والأعمال (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) فتصححوا الاعتقادات (وَتَتَّقُوا) فتصلحوا الأعمال (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وهاهنا :
لطائف
الأولى : في التعبير عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيل على كل منهما ، بما يليق به ، وإشعار بعلة الحكم.
الثانية : إفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما أعني المؤمنين بصيغة الجمع ، للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما ، كما في مثل قوله تعالى (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) [النساء : ٣] ، ونظيره قوله تعالى (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) [الحج : ٢] ، حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم.