عليه دأب الناس فأمر الله تعالى أولئك العرب الّذين كانوا لا يقفون مع غيرهم في عرفات. وبذلك يكون تشريعا للوقوف بعرفات وأنّ الكلام بمنزلة الاستدراك بعد قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) وتكون (ثم) دالة على التراخي الرتبي والخطاب مع قريش فقط.
ولكن فيه نظر فإنّه بناء على ذلك تكون الجملة تكرارا لمفاد الجملة الاولى وهو لا يليق بكلامه تعالى ، فلا بد من حمل الإفاضة إمّا على الإفاضة من المشعر إلى منى كما ذكرنا أو حملها على كيفية الإفاضة في الإفاضتين بأن يكون المفيض على هدوء ووقار بلا تهجم ، وللإعلام بأنّ الإفاضة المطلوبة هي الإفاضة المشروعة فإنّها هي من رحمة الله تعالى.
قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
تحريض على طلب المغفرة ودعوة منه تعالى إلى الجنة لأجل أنّ الزمان والمكان من مبشرات ذلك فهما من أفضلهما ، فكما أنّ الوقوف بعرفات والمشعر وأيام منى يوجب تخفيف الذنوب والتقرّب إلى المحبوب وأنّه تعالى يتجلّى لعباده في تلك المشاعر ليتجاوز عن المسيئين ويرفع درجات المخلصين ، أمر تعالى بطلب الغفران لينطبق الحال مع المقال ويصير اللسان والمكان جميعا فيضان الرحمة وإفاضة النعمة ، فكأنّه تعالى يريد أن يطهّر ضيوفه الواردين إليه عن دنس المآثم ويزيل عنهم شرّ الوسواس الخنّاس ثم يأذن لهم في الخروج عن حرمه وهذا هو أعظم أنواع الهدايا وأشرف أنحاء العطايا منه للعباد.
وفي الآية إشارة إلى أنّ ذكر الآباء بمعزل عن هذه الهدية ولا أثر له في هذه العطية ولا ينافي ذلك استفادة العموم من جملة (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) لجميع الناس وفي جميع الأمكنة كما تدل عليه العلة التامة الشاملة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي كثير الغفران ووسيع الرحمة.
وقد ذكر لفظ «الغفور» في عدة آيات كثيرة كلّها مقرونة بالتأكيد والتثبيت مثل لفظ «انّ» و «كان» ومقرون بالرّحيم والحليم.