عسى في مثل هذه الآيات إنّما أتي بها بلحاظ حال المخاطب ، فيصح الكلام حينئذ من دون عناية ، كما يقول الأب الحكيم لولده : شاور في أمورك أهل النصيحة والإخلاص عسى أن يكمل عقلك. وإن استعملت بلحاظ حال المتكلّم فلا بد أن تصرف عن معناها الحقيقي لاستحالة التمنّي والترجي والطمع بالنسبة إليه جلّت عظمته ، وقد تقدّم ما يتعلّق بذلك فيما مرّ من الآيات.
وهذه الآية الكريمة وما في سياقها تدل على أنّ ما وراء هذا العالم المادي الذي يدور مدار الأوهام والخيال عالم آخر لا يكون فيه إلا الحقائق المتأصلة والإدراك الصحيح المطابق للواقع ، فربما يكون ما نزعمه خيرا في هذا العالم شرّا في ذلك العالم ، وربما يكون شرّا في هذا خيرا في ذاك ، وقد ثبت ذلك بالأدلة العقلية أيضا ، وأيدت بالتجارب الشخصية والنوعية ، ولا معنى للاستكمال إلا ذلك.
قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
تأكيد لما تقدّم ، وبيان لخطأ معتقدهم ، فإنّه بعد أن ذكر ما تزلزل به جهلهم المركب وحصل لهم الشك في اعتقادهم وتصورهم أعقب سبحانه ذلك بأنّه عالم بحقائق الأمور وأثبت العلم المطلق ونفاه عنهم وأنّهم لا يعلمون إلا ما علّمهم الله تعالى ، فلا بد من تسليم الأمر إليه.
والآية تثبت العلم المطلق لله عزوجل ، وقد دلّت الأدلة العقلية والشرعية عليه ، فإنّ العلم الحقيقي إنّما هو فيما إذا كان علما بمبدإ الشيء ، وغايته ، ومادته ، وصورته ، وجميع عوارضه الشخصية. وتمام جهات استكماله وزمانه ، ومكانه ، وبقائه ، وفنائه وما يتعلق به ، وما يتفرّع عنه كلّ ذلك على نحو العلم الحضوري الفعلي الإحاطي ومثل ذلك محال بالنسبة إلى غيره جلّت عظمته ، لأنّ الأشياء من أول حدوثها إلى آخر ما يتوارد عليها من الصور والاستكمالات حاضرة لديه فعلا بلا تدرج وجودي ، أو تخلل زمان في البين ، فهي في هذا العالم كنقطة واحدة حاضرة لديه بلا تقدم وتأخر في البين.