وقد تشرف هذا الشهر بنزول القرآن فيه ، ولذا اختص بالصيام ولا يعقل شرف فوق شرف كتاب الله عزوجل ، وإن كان هذا الشهر مقدس من القديم وكان الصوم فيه عبادة قديمة ، وقد ورد في الأخبار بأنّ الكتب السماوية من صحف إبراهيم ، والتوراة ، وزبور داوود ، والإنجيل ، والقرآن نزلت في هذا الشهر. وفيه تقدر جميع الأمور بكليّاتها وجزئياتها ، قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان ـ ٤]. وفيه القضاء المبرم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل ، ويأتي في المحلّ المناسب تفصيل ذلك.
قوله تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ).
الهداية : هي الدلالة بلطف ، والهدية : الإعطاء ، ففي الإعطاء والبذل تسمى هدية ، وفي الدلالة هداية ، وقد ذكرت هذه المادة بجميع مشتقاتها في القرآن الكريم في ما يزيد على ثلاثمائة مورد ، وفي جميع استعمالاتها مقرونة بالشرف والتعظيم ، إلا في مثل قوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات ـ ٢٣] ، وقوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ـ ١٠]. ويمكن الاستعمال بداعي التهكم لا الحقيقة.
والمعروف بين الأدباء أنّ الهداية إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب ، وإن تعدت (باللام أو إلى) كانت بمعنى إراءة الطريق ، وهذا من إحدى القرائن التي يجدها المتتبع في الكلمات.
والهداية : إن كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب بالنسبة إلى الله عزوجل فهو غير متناه. لأنّ المطلوب لا حد له بوجه من الوجوه. نعم استعداد من يهدى له مراتب متناهية ، لفرض إمكانه.
وإن كانت بمعنى إراءة الطريق فهي كثيرة ، وللمجاهدات والرياضات الشرعية دخل كثير في الهدايتين ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت ـ ٦٩]. وتقدم ما يتعلق بهذه المادة في أول سورة البقرة فراجع.
ولفظ الناس قد ذكر في القرآن في ما يقرب من مأتين وخمسين آية ،