والحق أن يقال : إنّ القرآن يختلف عن سائر الكتب الإلهية من جهات كثيرة فهو آخرها ، المهيمن عليها ، وأنّه (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود ـ ١] ، وأنّ فيه (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً) [يوسف ـ ١١١] ، وأنّه (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس ـ ٣٧] ، وأنّه (فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف ـ ٤] ، ويكفي في عظمة أمره قوله تعالى : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى ـ ٥٢]. ولا ريب في أنّ مثل هذا الكتاب له من الجلال والعظمة والكبرياء ما لا يمكن دركه بالعقول وإن بلغت ما بلغت ، وحينئذ لا يمكن لنا أن نقول بنزوله مرة واحدة ، سواء كان دفعة واحدة أم تدريجا من دون أن يعرف من أنزل عليه تأويله ، وهو النبي العظيم حبيب ربّ العالمين وصاحب الشرع المبين ، الذي هو سر من أسرار عالم الجبروت ، وقد انطوى فيه العالم الأكبر ، وهو بنفسه كتاب إلهي تكويني ، وله المقام المحمود عند رب العالمين ، ومع ذلك كلّه يكون غافلا عمّا ينزل عليه ، وهذا بعيد جدا فلا بد وأن يكون عارفا به وبتأويله وحقيقته وجميع خصوصياته فأنزل جميعا على قلب رسول الله (صلىاللهعليهوآله). كما هو المتيقن من قوله تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى). [سورة النجم ـ الآية ـ ١٠] ، ثم بعد ذلك أنزل عليه تدريجا في مدة الدعوة ولا مانع من تعدد الوحي الذي هو سر إلهي بين الموحي والموحى إليه ، وفيه ابتهاج للمنزل عليه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة ـ ١٩] ، وقوله تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [ص ـ ١١٤] ، ومن المعلوم أنّه إن لم يكن عارفا به وعالما بخصوصياته لا معنى لتعجيل القرآن وإظهار بيانه فبالوحي يظهر ما في قلبه على ظاهر لسانه.
ولا ينافي ذلك أنّ القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، أو إلى البيت المعمور ـ أو بيت العز ـ حسب اختلاف التعبيرات في الروايات ، أو أنّه ينزل ما يراد إنزاله في السنة في ليلة القدر ، كما في بعض الروايات ، أو له نزول آخر ، فإنّ للنزول والتنزيل غايات متعددة ومراتب مختلفة يتعددان