بتعددها ، فتارة ينزل من مرتبة العلم الأزلي وهو مرتبة الذات ـ لفرض أنّ علمه تعالى عين ذاته جل شأنه ـ إلى مرتبة فعله عزوجل ، وأخرى ينزل جملة أو تفصيلا على قلب رسول الله (صلىاللهعليهوآله). وثالثة ينزل لإبراز عالم الغيب في عالم الحس والعيان ، أو بالعكس. وهذا ظاهر لكل من تأمل في المقام.
هذا إذا لوحظ النزول والإنزال وما يماثلهما من التعبيرات بالنسبة إلى ذات الكتاب العظيم وحقيقته. وأما إذا لوحظ من حيث إضافته إلى ذات المبدإ تبارك وتعالى فالنزول والإنزال لا وجه لهما ، لأنّهما من صفات الأجسام ، وهو تعالى منزه عنها فإنّه جل شأنه محيط بجميع ما سواه بالإحاطة الحقيقية.
ومن ذلك يظهر ما عن نبينا الأعظم (صلىاللهعليهوآله) : «إنّ الله ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا» فلا بد من حمل هذه الرواية وأمثالها على نزول الرحمة والألطاف الإلهية وقربها من العباد ـ كما ورد في عشية عرفة ـ وتخصيصها بالليل ، والثلث الأخير منه ، لأنّه وقت التهجد وغفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة الله والانقطاع إليه أشد وعند ذلك تكون النية خالصة والرغبة إليه تعالى وافرة وذلك مظنة القبول والإجابة.
الغاية من تعدد النزول :
لا ريب في أنّ تعدد نزول القرآن يدل على عظمته ، وتفخيم أمره ، وإعلاء شأن من نزل عليه والاعتناء به ، وأنّه تكريم لبني آدم حيث نزل فيهم هذا الكتاب الكريم وإعلام للملائكة وسكان السّماوات بأهميته ، وأنّه آخر الكتب السماوية ، وإتمام الحجة على الخلايق ، ولذا لم يكن كتاب إلهي غيره ينزل متعددا أو ينزل نجوما وقد خفي على المشركين والكافرين عظمة هذا الكتاب حيث اعتبروه كسائر الكتب الإلهية على ما حكى عنهم عزوجل فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) فأجابهم عزوجل : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان ـ ٣٢]. ويمكن أن يكون المراد بتثبيت الفؤاد عنايته تعالى بجهة ابتلائه مع الناس وشدة معاداتهم للوحي والموحى إليه.