تنبيه :
دلت الآية على أن الأنبياء ، بعد استيفاء أجلهم الدنيويّ ، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم. وقد روى البخاري (١) هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا أيها الناس! إنكم محشرون إلى الله حفاة عراة غرلا. ثم قال : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) إلى آخر الآية ، ثم قال : ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : يا رب! أصيحابي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.
القول في تأويل قوله تعالى :
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١١٨)
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الحافظ ابن كثير : هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزوجل. فإنه الفعال لما يشاء (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣]. ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله. وجعلوا لله ندّا وصاحبة وولدا. تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. انتهى.
أي : إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك. ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه. وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. وإن تغفر لهم فلا عجز ولا استقباح. لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب. الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم. فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد. فلا امتناع فيه لذاته ، ليمتنع الترديد والتعليق ب (إن). أفاده البيضاوي.
يعني أن المغفرة ، وإن كانت قطعية الانتفاء بحسب الوجود ، لكنها لما كانت بحسب العقل ، تحتمل الوقوع واللاوقوع ، استعمل فيها كلمة (إن) فسقط ما يتوهم
__________________
(١) أخرجه البخاري في أبواب متعددة من صحيحه وأولها ما جاء في : الأنبياء ، ٨ ـ باب قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ، حديث ١٥٨٥.