التي جاء بها مستأنفة ، ما يدل على المانع ، وهو اعتقاده أنه أفضل منه ، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول ، مع ما في طيّها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. فالجملة متضمنة للجواب بقياس استدلاليّ ، وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمروذ. وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين ، لأنها جوهر نورانيّ ، وهو ظلمانيّ ، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] أي : بغير واسطة ، وباعتبار الصورة. كما نبه عليه بقوله (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر ، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواصّ ليست لغيره. وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته ، يشرف بفاعله وغايته وصورته ، والثلاثة في آدم عليهالسلام دونه ، فاستبان غلطه.
وفي (اللباب) أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق ، وأخطأ طريق الصواب ، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب. وهذا الذي حمله ، مع سابقة شقائه ، على الاستكبار عن السجود لآدم عليهالسلام ، والاستخفاف بأمر ربه ، فأورده ذلك العطب والهلاك. ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت ، وهذا كان الداعي لآدم عليهالسلام ، مع سابقة سعادته ، إلى التوبة من خطيئته ، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت (١) : «قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجانّ من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم». رواه مسلم.
تنبيه :
روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) قال : قاس إبليس وهو أول من قاس. وأخرج أيضا بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس ، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد.
__________________
(١) أخرجه مسلم في : الزهد والرقاق ، حديث ٦٠.