وجلّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده ، كإبراهيم النخعيّ وأصحاب ابن مسعود. إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل ، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم. فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف. ثم قال : وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية ، أو مذهب في سنة ، ردّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ ، أو ادعاء نسخ. إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرا ، وهو يوجد لغيره قليل. وعن الليث بن سعد أنه قال : أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلىاللهعليهوسلم ، مما قال مالك فيها برأيه. قال : وقد كتبت إليه أعظه في ذلك. هذا كلام ابن عبد البر ملخصا.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه : أنه روى عن عليّ وزيد أنهما احتجا بقياس ، فمن ادعى إجماعهم ـ أي الصحابة ـ على ترك العمل بالرأي والقياس ، مطلقا فقد غلط ، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس ، فقد غلط ، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم ، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها ـ انتهى ـ.
وقال ابن تيمية رحمهالله في فتوى أخرى : والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم ، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا. والقياس الصحيح نوعان :
أحدهما : أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقا غير مؤثر في الشرع ، كما ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم في الصحيح (١) أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن ، فقال : ألقوها وما حولها ، وكلوا سمنكم. وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن ، فلهذا قال جماهير العلماء : إنه أيّ نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت ، وكالهرّ الذي يقع في السمن ، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن. ومن قال من أهل الظاهر : إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن ، فقد أخطأ ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة ، لكن لما استفتى عنها أفتى فيها ، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع ، فأجاب المفتي عن ذلك ، خصه لكونه سئل عنه ، لا لاختصاصه
__________________
(١) أخرجه البخاري في : الذبائح والصيد ، ٣٤ ـ باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب ، حديث ١٧٥ ونصه : عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنهم قالت : سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن فأرة سقطت في سمن؟ فقال «ألقوها وما حولها ، وكلوه».