وقال أبو المنصور : ما من أحد مسلم وكافر ، إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا. بها يتعيشون ويؤاخون ويوادّون ، وفيها ينقلبون ، لكنها للمؤمنين خاصة في الآخرة ، لا حظّ للكافر فيها. وذلك قوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف : ١٥٦] أي : معصية الله ، والخلاف له ، (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ، كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢] ، جعل طيبات الدنيا ونعيمها مشتركة بين المسلم والكافر ، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة ، لا حظّ للكافر فيها. فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا ، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة ويحتمل قوله ـ والله أعلم ـ. (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) [الأعراف : ١٥٦] أنهم سألوا الرحمة ، فقال : سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته. انتهى.
الثالث ـ إنما أفرد (الزكاة) بالذكر ، مع دخولها في التقوى قبل ، لعلوّها وشرفها ، فإنها عنوان الهداية ، ولأنها كانت أشق عليهم ، فذكرها لئلا يفرّطوا فيها.
الرابع ـ كونه صلىاللهعليهوسلم لا يكتب ولا يقرأ ، أمر مقرر مشهور. وهل صدر عنه ذلك في كتابة صلح الحديبية كما هو ظاهر الحديث المشهور (١) ، أو أنه لم يكتب ، وإنما أسند إليه مجازا ، أو أنه أصدر منه ذلك معجزة؟ ـ انظر في (فتح الباري) تفصيله ـ.
و (الأمي) نسبة إلى أمة العرب ، لأن الغالب عليهم كان ذلك ، كما في الحديث (٢) : (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وأما نسبته إلى (أم القرى) فلأن أهله كانوا كذلك. أو إلى (أمّه) كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها. وقيل : إنه منسوب (إلى الأمّ) ـ بفتح الهمزة ـ بمعنى القصد ، لأنه المقصود ، وضمّ الهمزة من تغيير النسب. ويؤيده قراءة يعقوب (الأميّ) ـ بفتح الهمزة ـ ، وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا. وإنما وصفه تعالى به تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته. فهي له مدح وعلوّ كعب ، لأنها معجزة له ، كما قال البوصيري.
__________________
(١) أخرجه البخاري في : الشهادات ، ١٥ ـ باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أجل الحرب وكتابة الشروط ، حديث رقم ٨٨١ و ٨٨٢.
(٢) أخرجه البخاري في : الصوم ، ١٣ ـ باب قول النبيّ صلىاللهعليهوسلم «لا نكتب ولا نحسب» حديث رقم ٩٦٨.