العير كانت أسفل منهم؟ قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدته ، وتمهّد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين ، والتياث أمرهم ، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ، ليست إلا صنعا من الله سبحانه ، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته ، وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى الّتي أناخ بها المشركون ، كان فيها الماء ، وكانت أرضا لا بأس بها. ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبار (ما لان من الأرض واسترخى) تسوخ فيه الأرجل ، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة ، وكانت العير وراء ظهور العدوّ ، مع كثرة عددهم ، فكانت الحماية دونها تضاعف حميّتهم ، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ، ليبعثهم الذبّ عن الحريم ، والغيرة على الحرب ، على بذل جهيداهم في القتال ، وألا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ، ويضبط همومهم ، ويوطن نفوسهم ، على ألا يبرحوا موطنهم ، ولا يخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى نجدتهم ، وقصارى شدتهم ، وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر ، ليقضي أمرا كان مفعولا ، من إعزاز دينه ، وإعلاء كلمته ، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين ، مبهمة غير مبيّنة ، حتى خرجوا ليأخذوا العير ، راغبين في الخروج ، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأموالهم ، حتى نفروا ليمنعوا غيرهم ، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا ، وهؤلاء بالعدوة القصوى ، ووراءهم العير يحامون عليها ، حتى قامت الحرب على ساق ، وكان ما كان ، انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) : وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري ، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.
وقوله تعالى : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال ، لخالف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم ، على الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيّب رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمين ، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له. قاله الزمخشري.
وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم والمسلمون يريدون عبر قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد.
وروى ابن جرير عن عمير بن إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر