لطائف :
الأولى ـ قال الزمخشري : فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر ، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء ، ثم كثّرهم فيها بعده ، ليجترؤوا عليهم ، قلة مبالاة بهم ، ثم تفجؤهم الكثرة ، فيبهتوا ويهابوا ، وتفلّ شوكتهم ، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم ، وذلك قوله : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) [آل عمران : ١٣] ولئلا يستعدوا لهم ، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا.
الثانية ـ قال الزمخشري أيضا : فإن قلت : بأي طريق يبصرون الكثير قليلا؟ قلت : بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير ، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين قيل لبعضهم : إن الأحول يرى الواحد اثنين ـ وكان بين يديه ديك واحد ـ فقال : مالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟ انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) : وفي هذا ـ يعني كلام الزمخشري ـ دليل بيّن على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة ، غير موقوف على سبب من مقابلة ، أو قرب ، أو ارتفاع حجب ، أو غير ذلك. إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا ، لما أمكن أن يستر عنهم البعض ، وقد أدركوا البعض ، والسبب الموجب مشترك. فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك مع اجتماعها ، فلا ربط إذن بين الرؤية ونفيها في مقدرة الله تعالى؟ وهي رادّة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى ، بناء على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا ، وأنها تستلزم الجسمية ، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم. فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم ، ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون ، والله الموفق.
الثالثة : لا يقال : إن قوله تعالى : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) مكرر مع ما سبق. لأنّا نقول : إن المقصود من ذكره أولا هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين ، على وجه يكون معجزة دالة على صدقه صلىاللهعليهوسلم ، والمقصود منه هاهنا بيان خارق آخر ، وهو تقليلهم في أعين المشركين ، ثم تكثيرهم للحكمة المتقدمة.
وفي قوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد.
ثم أرشد تعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى ، ومبارزة الأعداء ، بقوله سبحانه :