وقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بالنبذ ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال ، لكونها خيانة ، فيكون تحذيرا له صلىاللهعليهوسلم منها ، وإما باعتبار استتباعه للقتال ، فيكون حثّا له صلىاللهعليهوسلم على النبذ أولا ، وعلى قتالهم ثانيا ، كأنه قيل. وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ، ثم قاتلهم ، إنّ الله لا يحب الخائنين ، وهم من جملتهم ، لما علمت من حالهم. أفاده أبو السعود.
تنبيه :
دلت الآية على جواز معاهدة الكفار لمصلحة ، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم يظهر منهم أمارة الخيانة ، وتدل على إباحة نبذ العهد لمن توقع منهم غائلة مكر ، وأن يعلمهم بذلك ، لئلا يعيبوا علينا بنصب الحرب مع العهد.
روى أصحاب السنن (١) أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد ، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب ، حتى إذا انقضى العهد غزاهم. فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول : الله أكبر! الله أكبر! وفاء لا غدر. فإذا هو عمرو بن عبسة ، فأرسل إليه معاوية فسأله ، فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : من كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء : فرجع معاوية.
وروى الإمام أحمد (٢) عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منكم فهداني الله عزوجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم مالنا ، وعليكم ما علينا ، وإن أنتم أبيتم ، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، إن الله لا يحب الخائنين. يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها.
هذا ، وما ذكر من وجوب إعلامهم ، إنما هو عند خوف الخيانة منهم وتوقعها ، كما هو منطوق الآية. وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد ، بل يفعل كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة ، وهم في ذمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمرّ الظهران ، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
__________________
(١) أخرجه أبو داود في : الجهاد ، ١٥٢ ـ باب في الإمام يكون بينه وبين العدّ عهد فيسير إليه ، حديث رقم ٢٧٥٩.
وأخرجه الترمذي في : السير ، ٢٧ ـ باب ما جاء في الغدر.
(٢) أخرجه في المسند ٥ / ٤٤٠.