وروى الإمام أحمد (١) عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم. ورواه البخاري وغيره.
الرابع ـ ذكر ابن القيّم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلىاللهعليهوسلم مع الكفار والمنافقين ، من حين بعث ، إلى حين لقي الله عزوجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذا السورة ، قال رحمهالله :
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثر : ١ ـ ٢] فنبأه بقوله (اقْرَأْ) [العلق : ١] ، وأرسله ب (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن لم يقاتله. ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة. فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد. وأمر أن يقاتل من نقض عهده ، ولما نزلت سورة (براءة) نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوّه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام. وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام :
قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم.
وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم.
__________________
(١) أخرجه في المسند ٣ / ١٩٩.