الرّحضاء ، ثم رفع رأسه فقال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كما وصف نفسه ، ولا يقال : كيف. و (كيف) عنه مرفوع. وأنت صاحب بدعة. وفي رواية قال : الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة.
قال الحافظ الذهبي في كتاب (العلوّ) ـ بعد ما ساق هذا ـ ما نصه :
وهو قول أهل السنة قاطبة ، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها ، وأن استواءه معلوم ، كما أخبر في كتابه ، وأنه كما يليق به ، لا نتعمق ولا نتحذلق ، ولا نخوض في لوازم ذلك نفيا ولا إثباتا ، بل نسكت ونقف ، كما وقف السلف ، ونعلم أنه لو كان له تأويل ، لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون ، ولما وسعهم إقراره وإمراره ، والسكوت عنه. ونعلم يقينا مع ذلك أن الله جل جلاله ، لا مثل له في صفاته ، ولا في استوائه ، ولا في نزوله ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
ثم قال الذهبي : قال الإمام العلم ، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري صاحب التصانيف الشهيرة ، في كتابه (مختلف الحديث) : نحن نقول في قول الله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] ، أنه معهم ، يعلم ما هم عليه ، كما تقول للرجل وجّهته إلى بلد شاسع : احذر التقصير فإني معك ، يريد أنه لا يخفى عليّ تقصيرك. وكيف يسوغ لأحد أن يقول : إن الله سبحانه بكل مكان ، على الحلول فيه ، مع قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ومع قوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠] ، كيف يصعد إليه شيء هو معه ، وكيف تعرج الملائكة والروح إليه وهي معه؟ قال : ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرتهم ، وما ركبت عليه ذواتهم ، من معرفة الخالق ، لعلموا أن الله عزوجل هو العلي وهو الأعلى ، وأن الأيدي ترفع بالدعاء إليه ، والأمم كلها عجميّها وعربيّها يقول : إن الله في السماء ، ما تركت على فطرها ـ انتهى ـ.
ثم قال الذهبي أيضا : عن يزيد بن هارون شيخ الإسلام ، أنه قيل له : من الجهمية؟ قال : من زعم أن (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) على خلاف ما يقرّ في قلوب العامة ، فهو جهمي.
قال الذهبي والعامة ، مرادة بهم ، جمهور الأمة وأهل العلم ، والذي وقر في قلوبهم من الآية ، وهو ما دل عليه الخطاب ، مع يقينهم بأن المستوي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، هذا هو الذي وقر في فطرهم السليمة ، وأذهانهم الصحيحة. ولو كان له معنى وراء ذلك ، لتفوّهوا به ، ولما أهملوه. ولو تأول أحد منهم الاستواء ،